استمع إلى الملخص
- زهران ممداني، رمز للتغيير في السياسة الأميركية، يتحدى النظام التقليدي بمواقفه الجريئة مثل دعمه لحركة المقاطعة BDS، مما يثير عدم تأييد بعض القيادات الديمقراطية له.
- يبرز النص التناقضات في المجتمع الأميركي، حيث يُهاجم ممداني من قبل بعض العرب والمسلمين المتطرفين، رغم أنه يمثل التعددية الثقافية والقيم الأميركية الحقيقية.
"اعتراف لا بد منه، حتى ينسب الفضل لأهله"، والمقصود بما سبق هو الشطر الثاني من العنوان، فلم يكن بتلك الصيغة الماثلة أمامك عزيزي القارئ، وإنما كان "عرب الحزب الجمهوري" إلا أن التصحيح الهاتفي التلقائي أو "الأوتو كروكيشن" ذاك المدقق اللغوي الفضولي، أصر على تغيير النص واختار الصيغة الحالية ليمررها ورأسه وألف سيف بألا يحقق رغبة صاحبه كما يجسد المثل العربي من يصر على موقف معين يريد به نيل شيء محدد.
عموماً لا مشاحة في الاصطلاح، وإن كانوا عرب الحزب أو الخزي الجمهوري فلا فارق بين المعنيين المبتغيين في المقال، بمدلولهما والفئة المقيدة بهما وهم نفر من أمتنا يعيشون بين ظهرانينا، لا يحلمون بعضوية أي كيان سياسي بل من الكثير عليهم اشتراك ما في ناد رياضي، ومع ذلك انتابتهم لوثة بمجرد فوز زهران ممداني بالانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك، وهي عملية برمتها لا ناقة لهم فيها ولا جمل ولا حتى "معزة"، وإنما هو خضوع نفسي Submission لمن يرونه قريباً ونراه بعيداً وكأنهم من بين قيادات اللوبي الصهيوني، أو اليمين الأميركي المتطرف ودوائره النافذة في إدارة الرئيس دونالد ترامب كما نسخته الحالية من الحزب الجمهوري.
أحدهم عربي تحتفي به منصات دولة الاحتلال، يشاركها وتشاركه الاهتمامات والتغريدات مقدماً نفسه كأنه خبير إعلامي (من أكثر الكلمات المبتذلة في واقعنا)، إنه الخزي والسوء المتبجحان إلى درجة أن يكتب منشوراً محذراً مما هو آت إذا أصبح زهران العمدة، وكأن له صوتاً يمكن أن يحسم اختيار أي شيء في حياته ولو كان انتخابات في صف مدرسي، وبالتاكيد لم ولن يقترع في أي محفل ما دامت السموات والأرض، غير أنه صاغ بجرأة غير محمودة أهراء متطرفي اللوبي الصهيوني وأعاد تدويرها لجمهوره، وإذن فـ"لتستعد لمشاهدة الكنائس تتحول إلى حرم جامعي للجهاديين (يا لطيف!) والجامعات تصبح منابر متنمرة، حيث يتعرض اليهود للمضايقة ويحتفل المتحرشون"، وما من داع لإكمال أراجيف مملة من فرط استهلاكها كلما بزغ غربياً سياسي من أصول عربية أو مسلمة.
إنه زهران وليس ظهران كما يكتبه البعض، فهذه مدينة سعودية، بينما معنى اسمه الوضاء أو المنير، وهو فعلاً كذلك في مشهد أميركي مظلم، يعاني من سيولة سياسية ترامبية، وأزمة نموذج سياسي شائخ بحزبيه الرئيسيين، ويتبدى هذا في عدم استيعابهما لما وراء نجاح سياسي اشتراكي ديمقراطي شاب لا يزيد عمره على 33 عاماً، خروجاً على قالب النمط المعتاد لـ"الاستابلشمنت"، أي النظام السياسي ومؤسساته التقليدية، وقد مللنا، كما قطاع وازن من الجمهور الأميركي، من عملهم وفق قاعدة "إسرائيل أولاً"، في مفارقة لا تحدث في أي مكان بالعالم أن يقدّم أحدهم بلداً أجنبياً على وطنه، وكلما همّ مرشح بتقديم أوراقه لا بد من أن يسمِع العالم كله موشح "كم أنه صهيوني ويموت عشقاً في إسرائيل"، بئس الورد المورود، وهو عكس ما قام به زهران، نجل المفكر والأكاديمي الأوغندي-الهندي البارز في مجال دراسات ما بعد الاستعمار، محمود ممداني، وكما يقولون الابن سر أبيه.
لذلك "تعرفون الحق والحق يحرركم"، هكذا قال المسيح وهكذا فعل ممداني الابن، فلم يتردد في وصف ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية"، ولم يخش من القول إنه إذا أصبح عمدة نيويورك سيعمل على تنفيذ أوامر المحكمة الجنائية الدولية بحق القادة الإسرائيليين، بما فيها اعتقال بنيامين نتنياهو في حال زار المدينة، كما يدعم حركة المقاطعة BDS وهو مؤسس أول فرع لحركة "طلاب من أجل العدالة لفلسطين". سيرة ذاتية تشرّف الأب والابن والمدينة، المحتضنة لثاني أكبر تجمع يهودي في العالم بعد إسرائيل، ولهذا بينما أشادت القيادات العتيقة للحزب الديمقراطي في نيويورك، بمن فيهم الحاكمة كاثي هوشول، والسيناتور تشاك شومر، والنائب حكيم جيفريز، بحملة ممداني، فإنهم لم يُعلنوا تأييدهم له، فما يزال التيار السائد يرهن مواقفه للوبي الإسرائيلي المفزع، ومن هنا يمكن فهم لماذا أعلن بعضهم دعم المحامي ووزير الإسكان والتنمية الحضرية السابق أندرو كومو، الحاكم الديمقراطي السادس والخمسين للولاية، الذي فقد منصبه بعد اتهامات بالتحرش، فكان أول الواقفين بجواره، معلناً تأييده الرئيس السابق بيل كلينتون (تحالف المتحرشين) وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر.
ربما لهذا يقفون ضده؟ أي تلك المبادئ الفطرية في رفض الظلم وتأييد الحق، ومعهم عرب ومسلمون خطابهم مخز، يحسبون أنفسهم على أكثر فئات الحزب الجمهوري تطرفاً، هؤلاء ممن استجابوا لفوز ممداني بموجة فجة من الخطابات المعادية للإسلام بكل صراحةً، و"قومنا" بموقفهم هذا يصمون ذاتهم (إن كان لديهم أصلاً) بكل نقيصة، بينما يعيدون تدوير نفايات متشددين لا يفرقون بينهم وبين ممداني، وينطلقون من سيادة وتفوق البيض وتحقير كل ما سواهم من أعراق، كما يستهدفون المهاجرين، خاصة إذا برز أحدهم واستطاع شق طريقه غير المعبّد داخل "السيستم"، وهذا سر تشويه ممداني الابن بوصفه بالجهادي مع دعوات لسحب جنسيته، وتصوير فوزه باعتباره تهديداً للهوية، تغافلاً عن كون أميركا أمة قامت على مفاهيم مثل الهجرة وأرض الفرص والتعددية الثقافية وهذه جوهر القيم والقوة الثقافية لنموذجها.
إنهم المرجفون في المدينة، وإن كانوا على أرضنا أو هناك بعيداً في نيويورك "عاصمة العالم" و"بوتقة انصهاره" وبداخلها مرشح للمنصب الأهم فيها، يجهر بخطاب مؤيد للحق والخير قبل أن يكون لفلسطين بعدما صار جزءاً من تيار به وله وفيه مستقبل الحزب الديمقراطي.