إعدام الأسرى الفلسطينيين... الجريمة المقنّنة
بينما تتراكم جثث الفلسطينيين تحت أنقاض غزّة وتُدفن قصصهم في مقابر منسية، يصرّ الكنيست الإسرائيلي على إشهار سيف جديد في حرب الإبادة، بتشريعه عقوبة الإعدام للأسرى الفلسطينيين المدانين بقتل إسرائيليين، إذ صادقت لجنة الأمن القومي في الكنيست (الأحد الماضي) على مشروع قانون يقضي بفرض عقوبة الإعدام على الأسرى الفلسطينيين، تمهيداً لعرضه على الهيئة العامة في قراءة أولى. المفارقة أن القانون صدر رغم معارضة بنيامين نتنياهو نفسه، الذي أعلن مراراً أن هدف حرب غزّة هو استعادة الرهائن لدى حركة حماس. عجزُه عن منع التصويت أو حتى تأجيل النقاش، يكشف التناقض البنيوي بين الخطاب الأمني والسياسة الواقعية. أيُّ عبث أكبر من أن تشرّع دولة قتل أسرى "العدو" بينما تُظهر الحرص على أسراها؟!
القانون ليس وليد الساعة، بل تعود جذوره إلى اتفاق تشكيل الائتلاف الحكومي عام 2022 بين الليكود بزعامة نتنياهو، و"عوتسما يهوديت" بقيادة إيتمار بن غفير. في مارس/آذار 2023، مرّ القانون بقراءة تمهيدية، ليعود هذا العام قنبلة موقوتة انفجرت في لجنة الأمن القومي، بتصويت أربعة نواب لصالحه مقابل معارضة صوت واحد. حاول نتنياهو عرقلته، وطالب مقرّبون منه بتأجيل النقاش، لكن صوته غُلب في مشهد يعكس نفوذ اليمين المتطرّف الذي أراده رسالةً مشبعة بروح الانتقام تغلّبت على القواعد التشريعية. قال رئيس لجنة الأمن القومي، تسفيكا فوغل (عوتسما يهوديت)، إنه "شبع من تقديرات الأمن"، أمّا بن غفير فاعتبر أن الوقت هو الأنسب، مؤكّداً أن القانون يجب أن يمرّ "ليعرف الفلسطينيون أن سقوط شعرة من رأس أي مختطف سيقابله حكم بالإعدام". هكذا انكشف المنطق الدموي الذي يحكم التشريع في إسرائيل، مناقضاً لتحذيرات منسّق الأسرى غال هيرش، الذي شدّد على أن تمرير مشروع القانون قد يدفع "حماس" إلى الانتقام من الرهائن. في تل أبيب، خرج الآلاف في تظاهرات مردّدين: "أعيدوا جميع الأسرى الآن"، ما يلخّص الهوّة بين الدولة والمجتمع: تتاجر الحكومة بدماء الأسرى الفلسطينيين لأغراض انتخابية، بينما تخشى عائلات الرهائن الإسرائيليين أن تُدفع أرواح أبنائها ثمناً لهذه المزايدات.
كان دقيقاً وصف نادي الأسير الفلسطيني وهيئة شؤون الأسرى القانون بأنه "توحّش غير مسبوق"، ومحاولة لإضفاء شرعية على جريمة مستمرّة منذ عقود. وكان في محلّه تذكيرهما بأن إسرائيل مارست أصلاً سياسة "الإعدامات البطيئة" في السجون عبر الإهمال الطبي والتعذيب والعزل الانفرادي، وأن ما يحدث اليوم ليس سوى تقنين للجريمة، وأن القانون الدولي يجرّم عقوبة الإعدام، لكن إسرائيل تواصل التصرّف دولةً فوق القانون، مدعومةً بصمت أميركي وتواطؤ دولي. أمّا الأرقام فتؤكّد خطورة ما يحدث: أكثر من 11 ألف أسير فلسطيني، بينهم 53 امرأة، و400 طفل، وأكثر من 3500 معتقل إداري بلا محاكمة. القانون لا يستهدف "منفّذي عمليات" فقط، كما هو في ظاهره، بل يضع شريحةً واسعةً من الفلسطينيين تحت تهديد مستمرّ بالموت، والنتيجة: إبادة ميدانية في قطاع غزّة، يوازيها إعدام "قانوني".
المفارقة الأخلاقية صارخة: ترفض إسرائيل الاعتراف بانطباق اتفاقات جنيف على الأسرى الفلسطينيين وتصفهم بـ"المقاتلين غير الشرعيين"، لكنّها في المقابل تطالب بتطبيق المعايير الدولية لحماية أسراها في غزّة. حياة الإسرائيلي مقدّسة، بينما حياة الفلسطيني مشرّعة للموت. ازدواجية قديمة، تُعرّى اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، خاصّة مع أصوات إسرائيلية داخلية تعترف بأن "القانون يضر بأسْرَانا أكثر ممّا يضر بعدونا"، وفي وقت تتسع فيه الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية. ومع بقاء مصير الائتلاف الحكومي بيد بن غفير، يغامر نتنياهو بتقديم صورة إسرائيل دولةً تشرّع الإعدام الجماعي، ما يضعف موقفه في المحافل الدولية ويحرج حلفاءه الغربيين. لم يعد الأمر مجرّد قانون عابر في سجل الكنيست، بل مرآة تكثّف التناقض الإسرائيلي كلّه: دولة تشرّع قتل الأسرى الفلسطينيين بينما تتوسل لاستعادة أسراها، وحكومة تدّعي الردع بينما تعرّض حياة مواطنيها للخطر. تلعب حركة حماس على هذا التناقض، فتطلب هدنة إنسانية لحماية أسيرَين إسرائيليَّين فُقد الاتصال بهما، لتقول للعالم: "نحن نحمي أرواحهم بينما عدوّنا يشرّع قتلنا".
كيف لدولة تحتكر خطاب "الشرعية" أن تعلن بنفسها إلغاء قيمة الحياة الإنسانية؟ وإذا كانت حياة الفلسطينيين مجرّد "ملفّ أمني" يُختزل في نصوص عقابية، فكيف تُقنع إسرائيل نفسها (فضلاً عن إقناع العالم) بأن حياة أسراها تستحقّ التعاطف والحماية؟