اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان... توقيتها وأبعادها السياسية

25 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:51 (توقيت القدس)

محمد بن بن سلمان وشهباز شريف عقب توقيع اتفاقية دفاع مشترك في الرياض (17/9/2025 رويترز)

+ الخط -

منذ نشأتها في العام 1947، بعد انفصالها عن الهند، ارتبطت جمهورية باكستان الإسلامية بعلاقات وثيقة مع السعودية، بالرغم من سلسلة الانقلابات العسكرية فيها، وتعاقب العهود على الحكم في الرياض، واختلاف تركيبتي النظامين السياسيين في البلدين، إلا أن ما جمعهما، منذ البداية، الطابع الإسلامي للدولتين، وانخراطهما المبكّر في جانب المعسكر الغربي إبّان عقود الحرب الباردة مع علاقاتٍ موازيةٍ أقامتها باكستان خلال ذاك مع الصين.

وقد جاء التوقيع على اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين يوم 17 سبتمبر/ أيلول الجاري ليتوّج تاريخاً طويلاً وحافلاً من التعاون الثنائي في مختلف المجالات، من غير أن يخلو هذا الإعلان من عنصر المفاجأة، إذ لم يسبقه تمهيد مُعلَن من إسلام أباد والرياض يشي بأن الأمور تسير في هذا الاتجاه. ويدلّ هذا الطابع المكتوم للتحضيرات على أن البلدين يوليان أهمية خاصة لهذا الاتفاق، ما أبقى المباحثات بشأنه بينهما بعيداً من دائرة الضوء، وفاجأ دوائر عديدة في الإقليم والعالم، من الهند إلى إسرائيل، ومن إيران إلى الولايات المتحدة والصين، إلى دول عديدة أخرى.

ظروف الإعلان

اتسم توقيت إعلان الاتفاقية بوضع جيوسياسي حسّاس للبلدين. فمن جهة السعودية، جاء الإعلان بعد ثمانية أيام فقط من الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة، الذي سعت تل أبيب منه إلى زجّ قطر، ودول مجلس التعاون الخليجي، في دائرة الاستهدافات العسكرية الإسرائيلية، مع ما رافق ذلك من تهديداتٍ سافرة. كما أعلنت الاتفاقية بعد يومين من القمة العربية الإسلامية التي شارك فيها كلٌّ من باكستان والسعودية بنشاط، وعلى أعلى مستوى، وبعد اجتماع المجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي، الذي واكب القمة في العاصمة القطرية. وبينما حفل اللقاءان بالإعراب عن أوجه التضامن العربي والإسلامي مع قطر، وكذلك التضامن بين عموم الدول المشاركة في القمّة، شاءت الرياض، كما يبدو، إظهار اجتهادها الخاص في تعزيز القدرات العربية والإسلامية، وذلك برفع مستوى التعاون الشامل بما فيه الدفاعي، إلى مستوى الدفاع المشترك مع دولة صديقة هي باكستان، إذ يعتبر أيُّ اعتداء على أحد البلدين، وفق الاتفاقية، اعتداءً على البلدين معاً.

أي اعتداء على أحد البلدين، وفق الاتفاقية، اعتداء على البلدين معاً 

وإلى جانب الاعتداء الإسرائيلي غير المسبوق على دولة خليجية، فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي لا تنفكّ تشنّ حرب إبادة على قطاع غزّة، وترتكب اعتداءات ممنهجة على أبناء الضفة الغربية المحتلة، بالتزامن مع شنّ اعتداءات شبه يومية على لبنان برغم اتفاق لوقف إطلاق النار جرى توقيعه برعاية أميركية وفرنسية أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي (2024)، وشنّت اعتداءات في الوقت ذاته على سورية، رغم أنه لم يقع أي اشتباك بين الطرفين منذ الإطاحة بنظام آل الاسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي (2024)، فيما يستمر الحوثيون في اليمن بتوجيه ضربات صاروخية إلى الطرف الإسرائيلي.

وبالرغم من الحفاوة التي حظي بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في زيارته لكلٍّ من الرياض والدوحة وأبوظبي، وما نجم عنها من اتفاقات استثمارية بأرقام كبيرة، فقد لوحظ أن إدارة ترامب أبدت موقفاً ضعيفاً تجاه الاعتداء الإسرائيلي على قطر التي تستضيف قاعدة العديد الأميركية في أراضيها، وهو ما أعاد إلى الأذهان الموقف الأميركي الضعيف في العام 2019 تجاه السعودية، ثمّ ضدّ الإمارات في العام 2022، علماً أن دوائر سعودية لطالما أبدت ثقة أكبر بالجمهوريين من تلك التي منحتها للرؤساء والنواب الديمقراطيين. ومع ما تبديه الرياض من حرصٍ مستدامٍ على ثبات علاقاتها مع واشنطن، وعلى الطابع الاستراتيجي لهذه العلاقة، إلا أن الاعتداء على منشآت أرامكو النفطية وقع من دون ردّ فعل أميركي يذكر، ما دفع الرياض إلى توسيع علاقاتها مع المراكز الدولية، ومع الصين بالذات. ومن المنتظر أن يشهد اللقاء العربي الروسي عالي المستوى في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل تمتيناً للعلاقات المتبادلة بين موسكو وعواصم عربية عديدة، منها الرياض، والبلدان كلاهما ينسّقان ما بينهما على مستوى نشط في مجال الطاقة.

ومع تحسّن نسبي في العلاقات بين الرياض وطهران، يبقى التوجّس السعودي والخليجي قائماً إزاء الملفّ النووي الإيراني، ومن الدعم الإيراني الممنوح لمليشيات الحشد الشعبي في العراق وللحوثيين في اليمن، ومن زعزعة إيران الوضع في لبنان.

تؤكد السعودية بإبرام الاتفاقية ثقتها بإسلام أباد أكثر من ثقتها بواشنطن

وقد قادت جملة هذه التحدّيات الخارجية الرياض (كما هو بادٍ) إلى القناعة بأهمية تعزيز وضعها الدفاعي وتصليبه، بحيث تشكّل باكستان النووية عمقاً استراتيجياً ومظلّةً أمنيةً لها، مع حرص الرياض عقوداً على إدامة علاقاتها مع الهند وتطويرها في شتّى لمجالات.

أمّا باكستان فهي تواجه بدورها ظروفاً حسّاسة. في الأسبوع الأخير من إبريل/ نيسان الماضي، شهدت المنطقة الحدودية مع الهند، وعند ما يسمّى خطّ السيطرة، اشتباكات واسعة رغم محاولات باكستان تفادي المواجهة العسكرية. لم تتوسّع الاشتباكات ولم نشهد توغلاً ملحوظا لقوات برّية في الاتجاهين، غير أن البلدين استعرضا قوتهما العسكرية في البر والبحر، وتعرّضا لبعض الخسائر. وقد لوحظ أن باكستان برهنت على التعامل بندّية في الميدان، رغم التفوق العسكري الهندي في العديد والمعدّات.

كما تواجه باكستان مشكلاتٍ مع منظمات جهادية مسلحة، أبرزها "طالبان باكستان" ومنظّمات انفصالية. ورغم أن هذه الأنشطة لا تزعزع الأمن على نطاق واسع، إلا أنها تمثل استنزافاً للقدرات الأمنية وصداعاً سياسياً للمسؤولين في إسلام أباد. كما تواجه باكستان وضعاً اقتصادياً صعباً رغم النمو المستمرّ، إلا أن النمو السكّاني المتزايد، ووجود نحو 40% من السكّان تحت سنّ قوة العمل، وما شهده البلد من اضطراباتٍ سياسيةٍ بعد إطاحة عمران خان، والعوامل الطبيعية مثل الفيضانات ودورات الجفاف... أضعفت من صعود هذا الاقتصاد في بلد يعتبر شبه صناعي، ومن بين الاقتصادات الواعدة.

وتشهد العلاقات الباكستانية الأميركية اضطراباً كبيراً منذ نحو عقدَين، وقد حرصت واشنطن على تمتين علاقاتها بالجارة اللدودة لباكستان، الهند، ما أضعف الاستثمارات الاميركية في هذا البلد وكبح صندوق النقد الدولي عن تقديم قروض لازمة إلا بعد محادثات عسيرة مطوّلة. في هذا الوقت، شهدت علاقات باكستان بالصين نمواً كبيراً، مع شمول "طريق الحرير" باكستان، ومع استثمارات صينية متعدّدة، ومع تعاون دفاعي مطرد بين البلدين، فالصين أكبر مورّد للأسلحة وثالث الشركاء التجاريين لباكستان التي انتبهت إلى أهمية التعاون مع الجارة الصين، حتى في ذروة فترات الحرب الباردة، ونعني هنا أواسط ستينيّات القرن الماضي. وقد ظهرت أسلحة صينية حديثة لدى الجيش الباكستاني في المواجهة خلال الأيام الأربعة مع الهند. وإلى جانب الصين، تتمتع باكستان بعلاقات وثيقة مع تركيا وتقيم روابط تجارية وتحالفات اقتصادية مع الاتحاد الأوربي ودول آسيوية عديدة. ويشوب الحذر علاقات باكستان بكلّ من أفغانستان وإيران.

مصالح متبادلة

لدى باكستان والسعودية مصالح كبيرة متبادلة تعزّزت على مدى عقود. إذ تحتضن السعودية نحو مليون باكستاني من القوى العاملة الوافدة، ويوفّر هؤلاء تحويلات مالية منتظمة إلى بلدهم. وتستفيد المملكة من خبرات المؤسّسة العسكرية الباكستانية، فالتعاون بين البلدين لا ينقطع في هذا المجال، فيما تتطلّع السعودية إلى مزيدٍ من الاستثمارات في باكستان، بلد الفرص غير المُستغَلَّة بصورة كافية، وخصوصاً في مجال اكتشاف المعادن وتعدينها، وفي مقدّمها النحاس. وثمّة تقارير عن توجّه سعودي إلى زيادة الاستثمارات في باكستان لتصل إلى 25 مليار دولار، إضافة إلى استثمارات سعودية أخرى بمليارات الدولارات في مجال المعادن والمشتقات النفطية بباكستان، حسب وكالة بلومبيرغ. وبإمكاناتها المالية والاقتصادية الكبيرة، من شأن اتفاقية دفاع مشترك أن توفّر فرصة لباكستان لسدّ الثغرات والسير في طريق التصنيع، خصوصاً ما يتصل منه بالقطاعات الدفاعية.

تحتضن السعودية نحو مليون باكستاني من القوى العاملة الوافدة، ويوفّر هؤلاء تحويلات مالية منتظمة إلى بلدهم

فيما توفّر باكستان بعمقها السكّاني 255 مليون نسمة، وبقدراتها النووية، التي جعلتها الدولة الإسلامية الوحيدة التي تحوز تلك الأسلحة الأقدر على الردع، ظهيراً شديد الأهمية للسعودية ذات المطامح التنموية الكبيرة، التي تحتاج حُكماً إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وقطع الطريق على أي تهديدات محتملة.

أبعاد سياسية للاتفاقية

بالنظر إلى هيكلة الدفاع المشترك بين دول مجلس التعاون الخليجي، تمثل الاتفاقية أخيراً بين السعودية وباكستان إضافةً نوعية إلى ميزان القوى الخليجي. وفي حال التقدّم نحو استراتيجية دفاع ملزمة تشمل الدول الخليجية الست، ستكون هذه الإضافة أكثر إثماراً. مع الأخذ في الاعتبار أن باكستان تفتح، من جهتها، الباب أمام بقية الدول الخليجية لتوقيع اتفاقات مماثلة، وهو أمر ليس مستبعداً وقوعه في الأمد المنظور، وذلك مع محاولات دولة الاحتلال بالذات إخضاع العالم العربي بحروبٍ أو من دونها (بقوة الترهيب العسكري والتغلغل الاقتصادي والنشاط الاستخباري والاختراقات الرقمية الخبيثة).

وبالتفاتها إلى باكستان، تسجل الرياض عودة نشطة إلى الدائرة الإسلامية في مجال حركتها. ولئن كان من الصحيح أنها لم تغادر هذه الدائرة من قبل، إلا أن النشاط السعودي داخلها قد خفّت وتيرته الفعلية في العقد الماضي، وقد حظيت أحوال المسلمين في دول العالم بمتابعة سعودية أقلّ. ومع توقيع اتفاقية دفاع مشترك، يعود التلاقي السعودي الباكستاني مجدّداً كما كان في سنوات الذروة مع تشكيل منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تغيّر اسمها إلى منظمة التعاون الإسلامي، فقد تشكّلت هذه المنظمة بمبادرة قوية من السعودية وباكستان في أواخر العام 1969، ردّاً على إحراق جانب من المسجد الأقصى بصورة متعمّدة. وها هي اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين تبرم في ظروف التغوّل الإسرائيلي الجامح في الأراضي المحتلة وفي عدة بلدان عربية، وفي أجواء لا يتورّع فيها بنيامين نتنياهو عن القول إنه متمسّك بمشروع إسرائيل الكبرى، الذي يستهدف بلدانا عربية بالسطو المسلّح على أجزاء منها، ومنها السعودية، فيما تمضي إيران في مشروعها النووي.

لم تنجح الدول العربية في إبرام اتفاقية دفاع مشترك تضم أعضاء الجامعة أو العدد الأكبر منهم

ولأحدنا أن يتساءل ما إذا كانت السعودية ستدخل في خطّ المواجهة إلى جانب باكستان، إذا ما اندلعت حربٌ بينها وبين الهند، والردّ على ذلك أن من شأن هذه الاتفاقية تبريد بؤرة التوتر هذه، في ضوء العلاقة الوطيدة بين الرياض ونيودلهي، علماً أنها اتفاقية دفاع وليست اتفاقية هجوم أو حرب. أما إذا اعتدت إسرائيل على السعودية فإن معادلة الردّ سوف تجمع باكستان والسعودية، وهما بلدان كبيران لا يقيمان علاقات مع الدولة العبرية، ويربطان احتمال إقامة علاقات في المستقبل معها بانتهاج تل أبيب طريق السلام وفقاً للمبادرة السعودية العربية لعام 2002، والقرارات الدولية ذات الصلة.

ويبقى أن هذه الاتفاقية تؤشّر إلى أن الدول العربية لم تنجح في إبرام اتفاقية دفاع مشترك تضم أعضاء الجامعة أو العدد الأكبر منهم، رغم التعاون العسكري الذي جرى في عديد من الحروب والصراعات: حربي 1967 و1973، وحرب تحرير الكويت، والحرب مع الحوثيين في اليمن، ما دفع السعودية إلى عقد اتفاقية مع باكستان.

الأمر الثاني المهم أن علاقات التعاون الوثيقة عقوداً طويلة بين الرياض وواشنطن وعقود التسلح الهائلة، لم تؤدِّ في النتيجة إلى مأسسة هذا التعاون في منظومة ثابتة وملزمة، وفي رابطة مفعمة بالثقة، ويعود ذلك، في جانبٍ رئيسٍ منه، إلى النظرة الأميركية غير العقلانية التي تضع مصلحة الدولة العبرية فوق الدول العربية والإسلامية مجتمعة، رغم ما استنزفته هذه الدولة من أموال طائلة من الميزانية الأميركية، وما كسبته واشنطن من عداءٍ من طرف عشرات الدول ومليارات البشر في عالمنا، ولهذا ظهرت في المحصلة، وبعد مسار طويل، ثقة الرياض بباكستان، أكبر من الثقة بأميركا.