الانتظار امتحاناً للروح... ماذا ننتظر؟
(سعد يكن)
ما الذي يجعل المرء يقف عند عتبة اللحظة، مترقّباً ما لم يأتِ بعد، وكأنّ الزمن نفسه قد تحوّل مسرحاً كبيراً يتوارى خلف ستاره الغامض مشهدٌ لم يُعرَض بعد؟ لعلنا لا نعرف بالضبط لماذا ننتظر، لكنّنا نعرف تماماً ما يفعله بنا الانتظار: يضعنا في مواجهة أعماقنا، يمدّ أذرعه إلى القلب فيحرّضه على الخفقان، ويمتدّ إلى الفكر فيستدعي منه أسئلةً لا تهدأ.
الانتظار ليس مجرّد فراغٍ بين لحظتَين، أو عبوراً مؤقّتاً نحو ما سيأتي، بل هو حالة وجودية كاملة. إنه مساحة تشتبك فيها الرغبة مع القلق، والأمل مع الخوف، والحلم مع شكوكه الصغيرة التي تتهامس في الأذن كلما طال الطريق. كم مرة انتظرنا مكالمةً تغيّر مسار يومنا، أو رسالةً تضيء غيمةً عابرةً في روحنا، أو وجهاً يغيب طويلاً ثمّ يعود؟ في لحظات الانتظار تلك، يتوقّف العالم عند تفصيلة صغيرة، ويتحوّل كل شيء حولنا مؤثّراتٍ صامتةً في هامش شوقنا، حتى الهواء الذي نتنفّسه يبدو محمّلاً بترقّب خفي. وهنا يكمن سرّ الانتظار: إنه يعيد ترتيب أولوياتنا الداخلية، يجعلنا نكتشف ما نعجز عن ملاحظته في ضجيج اللحظة الممتلئة.
ثمّة بُعدٌ فلسفيٌّ عميقٌ في هذه التجربة. فالمرء حين ينتظر لا يكتفي بالاستعداد لاستقبال حدثٍ آتٍ، بل يمارس نوعاً من التواطؤ مع الزمن نفسه، كأنه يجرّبه على مهل، يختبره، يقاومه أحياناً، ويصالحه أحياناً أخرى. لا يتركنا الانتظار محايدين، بل يعيد صياغتنا بصمتٍ عنيد. نخرج من كلّ تجربة انتظار بشخصية مختلفة قليلاً عمّا كنا عليه قبلها، مهما بدا التغيّر صغيراً.
مع ذلك، يظل الانتظار حالةً ملتبسةً، إذ لا يخلو من التناقض. إنه لحظة يختلط فيها الأمل بالخوف، فالأمل يتشبث بالوصول، والخوف يلمّح إلى الخيبة المحتملة. هذا التوتّر هو ما يمنح الانتظار كثافته الإنسانية: تلك القدرة على جعل المرء أكثر وعياً بما ينقصه، وأكثر انفتاحاً على احتمالاته. وربّما لهذا كان الانتظار دوماً مادّةً خصبةً للشعراء والكتّاب، لأنه يختزن في داخله طاقةً سرديةً هائلةً، تضع المرء بين مرآتَين متقابلتَين: واحدة تعكس ما هو كائن، وأخرى توحي بما قد يكون.
لكن، عمّ نبحث ونحن ننتظر؟ هل ننتظر ما يُكمّلنا، أم ما ينقصنا، أم ما يحرّرنا من قيود اللحظة؟ قد يكون الانتظار بحثاً عن معنى أكثر منه بحثاً عن حدث، فالأحداث مهما كانت عظيمةً تفقد بريقها سريعاً، بينما المعنى يظلّ متأصّلاً فينا، ممتدّاً عبر الأيام. ولعل ما نتعقّبه في كل لحظة انتظار هو هذا المعنى الذي يضفي على وجودنا لمسةً من الاكتمال، حتى لو كان وهمياً.
ومع أن الانتظار قد يكون قاسياً، إلا أنه يمنحنا فرصةً نادرةً للتأمل. في لحظات الانتظار الطويلة، نكتشف هشاشتنا التي نغطيها عادةً بانشغالات متكرّرة، نلمس ضعفنا الإنساني الذي نحاول إنكاره، ونعي حجم عطشنا للآخر، أو للغد، أو لحدث يفتح نافذةً جديدةً في جدار يومنا. وهنا يظهر الوجه الآخر للانتظار: إنه ليس مجرّد محنة، بل مدرسة للتماسك الداخلي، وتجربة تكشف لنا حدود صبرنا، وطاقة الخيال التي نستعين بها كي لا ينكسر هذا الصبر.
قد يكون الانتظار إذن ضياعاً إذا أُفرغ من المعنى، لكنّه يتحوّل طاقةً خصبةً إذا تعاملنا معه بوصفه لحظةَ إنصات إلى الذات. ففي صمته نتعلّم أن الأشياء لا تأتي بالضرورة حين نشتهيها، وأن الزمن ليس مطيعاً لأهوائنا. ومع ذلك، لا ينفي هذا إدراكنا أن الانتظار ذاته يغيّرنا ويمنحنا شكلاً آخر من أشكال النضج.
أجمل ما في الانتظار أنه يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والزمن، فهو يذكّرنا بأننا لسنا سادة هذا الزمن، ولا مجرّد ركّاب في عربته، بل نحن كائناتٌ تنسج من خيوطه حكاياتها الخاصّة. وربّما كانت قيمة الانتظار كامنةً في أنه لحظة مواجهة مع محدوديتنا، مع حاجتنا لأن نتجاوزها، ومع رغبتنا الدائمة في الإمساك بما يفلت دوماً من بين أيدينا.
قد ينتهي الانتظار بالفرح، وقد ينتهي بالخذلان، لكنّه لا ينتهي أبداً بلا أثر. كل لحظة نقف فيها مترقّبين، تترك فينا ندبةً أو أثراً خفيّاً أو حكمة صغيرة. لهذا، قد يكون انتظارنا الدائم هو البحث عن أنفسنا في مرآة الزمن، أكثر منه بحثاً عن شيء خارجي. ففي النهاية، ما ننتظره حقّاً هو صورة أصفى لذواتنا، صورة تكتمل حين نجرؤ على مواجهة الانتظار، لا عقوبةً، بل طريقاً إلى الفهم.