التحدّيات أمام الحكومة الانتقالية في سورية
الرئيس السوري أحمد الشرع يلقي كلمةً في حفل إعلان الحكومة الانتقالية (29/3/2025 الأناضول)
تشكّلت الحكومة الانتقالية في سورية أخيراً (الخطوة الأكثر أهميةً في المرحلة الانتقالية)، وتأتي بديلاً من حكومة مؤقّتة شُكّلت عقب رحيل النظام السابق. هذه الخطوة تأسيسية للنهوض بالدولة في المرحلة الانتقالية، وستشكّل ممارساتها مقياساً للسياسات الهادفة إلى النهوض بالدولة التي أعلنها الوزراء (والرئيس أحمد الشرع) في أثناء إلقاء الكلمات. لقد شكّكت قطاعات واسعة من السوريين طوال الأشهر الأربعة السابقة بوجود الدولة، وأن هيئة تحرير الشام، وقد سيطرت على سورية، تُمكّن لنفسها سلطةً مطلقةً وتتحكّم بالدولة، ولا سيّما أنها وضعت أغلبية كوادرها في قيادة الجيش والقضاء والعدل والطاقة والخارجية والداخلية، وهي الوزارات التي أتت من نصيب الإدارة، أي من نصيب هيئة تحرير الشام، التي وضعت كوادرها في الأشهر السابقة في كل مؤسّسات الدولة وأجهزتها. والآن، هناك قراءة تقول إن الوزراء الجدد من غير المذكورين سيكونون مكبّلي الأيدي بتلك الكوادر. وبالتالي، سيُواجَهون بمختلف التحدّيات المتعلّقة بترهّل مؤسّسات الدولة، ومنذ 2011، وكيفية مواجهة تعليمات وفِكَر وآراء وسلوكيات هذه الكوادر.
تراجع التأييد الشعبي للإدارة الجديدة بعد أحداث الساحل، وبعد الإعلان الدستوري المؤقّت الذي مَرْكَز السلطات بيد أحمد الشرع
يشكّل وزراء الإدارة الكتلة الصلبة في وضع سياسات الوزارة العامّة مع الرئيس. ومن ناحية أخرى، يشكّل النهوض بالدولة والاشتراطات الدولية عاملاً ضاغطاً لتقييد الكتلة الصلبة في فرض سياساتها، وليس من الصواب الثرثرة هنا في أن الإدارة ستكرّر ما كانت تفعله في إدلب، لكنّ خبرات الإدارة ووزرائها محدودة للغاية، ووزير العدل آتٍ من خلفية سلفية وليس من خلفية قانونية، وهذه مشكلة كبرى ستواجه قضاة وزارة العدل. وأيضاً، هناك فشل وزير الدفاع، وتبيّن ذلك في عدم قدرته على ضبط بعض الفصائل التابعة لوزارته، وقد ارتكبت مجازر وانتهاكات طائفية في النصف الأول من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، ولم تتوقّف الانتهاكات قبل التاريخ السابق ولا بعده. ويتخوّف السوريون من القرار 53، الذي (عدا عن عدم اختصاص وزارة الخارجية) يقضي بتشكيل "الأمانة العامّة للشؤون السياسية"، والذي نصّ على الاستيلاء على أصول حزب البعث والجبهة الوطنية التقدّمية. وهناك من يؤكّد أنّ السلطة، عبر هذا القرار، في طريقها إلى تأسيس حزب جديد، حزب السلطة، والخشية من أن يكون بديلاً من "البعث" وأيديولوجيته وسياساته ورؤاه، ما يؤسّس ديكتاتوريةً جديدة.
جاءت الحكومة الانتقالية واسعةً، والسياسات التي أعلنها الوزراء من خارج مجموعة الإدارة، وحتى من هذه المجموعة، تؤكّد وعياً عميقاً للمشكلات التي تواجه سورية، التي لم تفصّلها كلماتهم القصيرة، ويُنتظر تطبيقها، فتشمل إعادة هيكلة مؤسّسات الدولة مراجعة التعيينات العشوائية التي فرضتها الإدارة في الأشهر السابقة، وكانت فوضويةً وفاشلةً، كما كانت سياسات الحكومة المؤقتة كلّها، فجمّدت أعمال الدولة وحتى القطاع الخاص، وساءت أوضاع الشعب أكثر فأكثر. كما يجب التراجع عن أغلبية القرارات التي اعتُمدت، ولا سيّما طرد آلاف العمّال من وظائفهم، وطيّ قرارات التسريح التعسفي.
تقف أمام الحكومة الانتقالية مسألة تعزيز الأمن، وهي المدخل نحو تحقيق سياساتها، وكذلك نحو رفع العقوبات الدولية، وإنشاء علاقات طبيعية مع دول العالم كافّة. إذ يبدأ تعزيز الأمن من المباشرة في تطبيق العدالة الانتقالية، وقد أشار وزير العدل مظهر الويس إلى ذلك، وكان الأفضل ألّا يوجد هذا الرجل في هذا المنصب، لما ذُكر أعلاه. وليس تشكيل لجنتين، للتحقيق وللسلم الأهلي بعد مجازر الساحل، وعلى أهميتهما، ليس المدخل نحو تحقيق العدالة، بل ينبغي البدء بالتحقيق في المجازر منذ 2011. ولكن حسناً، هناك ضرورة الآن للبدء، وسينعكس تأثير ذلك ليس في استقرار الأمن، بل في أوجه النهوض بالدولة، وسيسمح بدوران عجلة الاقتصاد والانفتاح المجتمعي، والكفّ عن تحميل الأقلّية العلوية مجازر الأقلّية الأسدية، وستزول غشاواتٌ كثيرة لدى السوريين، علويين وسُنّة، وسيدفع الأمر نحو تعزيز مبادئ المواطنة، والحقوق والواجبات المتساوية، وتجفيف مناخات التطييف والعقلية الثأرية والانتقامية. وبالتالي، ليست وزارة العدل فقط معنيةً بأن تسارع إلى تطبيق العدالة الانتقالية، بل على الوزراء جميعهم وعي خطورة كلّ تأخير في هذه المهمة، وبأن ذلك سيعرقل تنفيذ سياساتهم، وسيبدون بأعين الشعب لا تطابق أقوالهم أفعالهم.
يأمل السوريون بأن يأتي المجلس التشريعي واسعاً وممثّلاً لمختلف المدن السورية، وعلى أساس الكفاءة والنزاهة والمرجعية الوطنية
أيضاً، من التحدّيات المذكورة أعلاه، أن كتلةً وازنةً من السوريين يرون أن السلطة تتّجه لفرض هيمنتها على الدولة، وأن سورية انتقلت من حكم حزب البعث إلى حكم استبدادي جديد، فهل يشكّل القرار "53"، المدخل نحو ذلك؟... نأمل طيّه، والثقة بالشعب السوري، الداعم، رغم النقد كلّه للإدارة، ولخطواتها منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول (2024)، فهناك رغبة شعبية بألّا تفشل الإدارة وحكومتها الجديدة في النهوض بالدولة، وإعطاء السوريين حقوقهم، بعيداً من عقلية الاستئثار والتفرّد والتأسيس لديكتاتورية جديدة.
تراجع التأييد الشعبي للإدارة بعد أحداث الساحل، وبعد الإعلان الدستوري المؤقّت، الذي مَرْكَز السلطات بيد الرئيس أحمد الشرع، وهناك رفض كردي واسع للحكومة الانتقالية، ويقول كثيرون إن السلطة ستفشل لا محالة في النهوض بالدولة، طالما هي لا تُشرك الشعب في المرحلة الانتقالية. انتقد صاحب هذه السطور بعض أوجه الفوضى والسياسات الخاطئة منذ رحيل النظام في مقالات كثيرة سابقة منشورة (في "العربي الجديد")، ولكنّ الوزارة الجديدة هذه منوّعة، وفيها وزراء أعلنوا سياسات مهمّة للفترة المقبلة. وبالتالي، هذه خطوة مهمّة نحو مغادرة الإدارة احتكارها وتفرّدها واستئثارها، وإن كان القرار 53 مؤشّراً سالباً.
سورية، في أسوأ أحوالها، أمام فرصة كبيرة من خلال حكومتها الانتقالية هذه، ويأمل السوريون بأن يأتي المجلس التشريعي واسعاً وممثّلاً لمختلف المدن السورية، وعلى أساس الكفاءة والنزاهة والمرجعية الوطنية، ولا يكون رفض المحاصصة الطائفية والقومية (وهو اتجاه سليم) بتمكين الطائفة السُّنية. السوريون المتخوّفون، ولألفٍ سببٍ وسبب، من سياسات الإدارة، ولا يأخذون الوعود على محمل الجدّ، هم أنفسهم من ينتظرون الوقائع الملموسة لأعمال الوزارة، وإن أيّ أعمالٍ إيجابية ستترافق بعودة الدعم والتأييد والثقة في الإدارة، فهل تتجه الأخيرة نحو التأسيس لدولة حديثة وفصل السلطات والتبشير بالنظام الديمقراطي، وإعطاء استقلالية كبيرة في أعمال الوزارة الجديدة على أسس وطنية ومواطنية، ومن دون أيّ وصائية وتحكّمٍ من الكتلة الصلبة في الوزارة؟