الحريديم ونتنياهو: هل يتفكّك معسكر اليمين التقليدي؟

10 يونيو 2025

قوة من شرطة الإسرائيلية تفرق تظاهرة في القدس لرافضين الخدمة العسكرية (25/2/2025 الأناضول)

+ الخط -

ربّما لم يخطر ببال ديفيد بن غوريون، حين أقرّ، قبل 77 عاماً، إعفاءً محدوداً لبضع مئات من طلاب المدارس الدينية (يشيفوت) من الخدمة العسكرية، أنه يضع بذور أزمة تهدّد وجود إسرائيل. كان الهدف آنذاك سياسياً بحتاً؛ استيعاب الحريديم في المشروع الصهيوني. إلا أن كرة ثلج "الاستثناءات المؤقّتة" تدحرجت من إعفاءات فردية إلى جماعية، ثمّ إلى نظام امتيازات مقدّس لا تقبل الأحزاب الدينية المساس به، وتعتبره شرطاً أساساً لأيّ تحالف سياسي.
منذ سنوات، يحوم شبح الخلاف حول خدمة الحريديم العسكرية في فضاء السياسة الإسرائيلية، لكنّ هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023) سرّع انفجار الأزمة، ومع توسيع العدوان على غزّة، واحتدام المواجهات في أكثر من جبهة، تبيّن لجيش الاحتلال، الذي لطالما تباهى بقدراته التقنية، أنه بحاجة ماسّة إلى "أحذية على الأرض"، ما أعاد بقوة طرح إعفاء الحريديم على طاولة النقاش، بوصفه تمييزاً فجّاً باسم الدين، يعارضه اليوم أكثر من 70% من الإسرائيليين. وعلى الرغم من محاولات الالتفاف السياسي، قضت المحكمة العليا بإلزام حكومة بنيامين نتنياهو باحترام مبدأ المساواة في أداء "الواجبات الوطنية"، وأبطلت أكثر من مرّة أي إعفاء جماعي لا يستند إلى أساس قانوني صريح، لكنّ الحكومة لجأت إلى سياسة المماطلة والمناورة، وحاولت تأجيل الانفجار السياسي المتوقّع.
المعضلة أعمق من مجرّد قضية تجنيد؛ إنها تمسّ جوهر البنية الاجتماعية الحريدية، القائمة على عقيدة "توراته مهنته"، والتي ترفض كلّياً الانخراط في مؤسّسات الدولة، وفي مقدمتها الجيش. ومن هنا، تصرّ الأحزاب الحريدية، خصوصاً حزبَي شاس ويهودوت هتوراه، على تمرير قانون شامل يضمن إعفاء طلاب التوراة نهائياً، أو على الأقلّ سنّ "قانون طوارئ" يحافظ على الوضع الراهن. في المقابل، يرفض رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست يولي إدلشتاين (حزب ليكود)، أيّ تسوية لا تشمل فرض عقوبات فورية على المتهرّبين من الخدمة. ومع تعثّر المفاوضات الداخلية وازدياد الضغط الشعبي والنيابي، قرّر حزب يش عتيد (المعارض) التقدّم رسمياً (غداً الأربعاء) بمشروع قانون لحلّ الكنيست، وأعلن الحريديم دعمهم للمشروع إذا لم يحصلوا على ضمانات صلبة بشأن قانون التجنيد، وأرسلوا إلى نتنياهو رسالةً حزبيةً موحّدةً: لا مساومة على إعفاء طلاب التوراة، ولو على حساب إسقاط الحكومة، ما يعني أن الأزمة لم تعد تدور حول بند قانوني أو تسوية سياسية فقط، بل دخلت مرحلة الصراع الوجودي حول هوية الدولة: هل هي يهودية بالمعنى الحاخامي، أم مدنية بالمعنى الليبرالي؟ وهل يمكن أن يستمرّ التمييز بين شابّ يخدم في وحدات النُّخبة وآخر يُعفى لأنه يضع فوق رأسه قبعة سوداء (كيباه) ويحفظ التلمود؟
يواجه نتنياهو سيناريوهات محدودة ومحفوفة بالمخاطر؛ تمرير قانون إعفاء شامل سيرضي الحريديم، لكنّه سيفجّر أزمة مع الجيش والمحكمة العليا، ويدفع نحو اضطرابات شعبية؛ فرض التجنيد بالقوة سيؤدّي إلى مواجهةٍ مفتوحةٍ مع المجتمع الحريدي، وربّما إلى تفكيك الائتلاف؛ التأجيل أو تقديم مشروع قانون مخفّف، وهو تكتيكٌ لم يعد يجدي نفعاً، لأن الخلافات داخل الائتلاف نفسه أصبحت غير قابلة للترقيع. مع فقدان أدوات المناورة القديمة، أصبح الحريديم، الذين كانوا بيضة القبّان في الحكومة، عبئاً استراتيجياً يصعب احتواؤه في زمن الحرب والانقسام الشعبي. تشير الدلائل إلى أن الانهيار مسألة وقت، فغياب تسوية عادلة بشأن "عقد المساواة" في الخدمة العسكرية يعني أن الأزمة ستتفاقم حتى تنفجر، والأحزاب الحريدية اليوم مستعدّة لحرق السفينة إن لم يُلبّ مطلبها الأساس.
في حال التصويت على حلّ الكنيست، وهو السيناريو المشتهى بالنسبة إلينا (نحن أعداء إسرائيل)، ستُفتح الأبواب رسمياً لانتخابات مبكّرة قد تُطيح نتنياهو وحلفاءه الحريديم، وربّما مستقبل اليمين الإسرائيلي التقليدي، فالمزاج الشعبي تغيّر، ولا ينظر الناخبون بعين الرضا إلى التحالفات التي حافظت على امتيازات دينية، في وقت يقتل فيه الجنود في جبهات متعدّدة. وفي ظلّ عودة محتملة لنفتالي بينت، يبدو أن "يمين ما بعد نتنياهو" يتشكل ببطء، لكن بثقة. الأزمة الحالية مرآة لأزمة هوية أعمق، ونهاية تحالفات كانت مقدّسة.