الذكاء الاصطناعي... الصين ليست متفوّقة بعد
من حيث المبدأ، ليست الصين متفوّقة في إنتاج مساعد الذكاء الاصطناعي مقارنة بالولايات المتحدة، كما شاع في الإعلام العربي خلال الأيام الماضية، عقب إطلاق الصين نموذجها المحدّث من تطبيق "ديبسيك" المسمّى "R1"، الذي قيل إنه أفضل من أحدث إصدارات "تشات جي بي تي" الذي طوّرته شركة "أوبن إيه آي" الأميركية، والمسمّى "4o". الحقيقة أن النموذج الصيني مجّاني أو أرخص ثمناً من الأميركي، لكنّه ليس متفوّقاً من حيث الجودة. أمّا الهلع الذي أصاب الأميركيين، فمردّه أن الصينيين باتوا قادرين على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي بكِلَفٍ أقلّ من نظرائهم، والنتيجة أن المنافسة الحقيقية بدأت للتو، فإذا لم يتمكّن المتخصّصون في الولايات المتحدة من الاستغناء عن التقنيات المُكلِفة في تطوير الذكاء الاصطناعي، فإن الصين ستكون قادرةً على التفوّق السريع في السنوات القليلة المُقبلة، أمّا إذا نجحوا، فإن تطوير المنتج الأميركي سيكون مضموناً هو الآخر.
ليست الصين معنيةً بتدمير التكنولوجيا الأميركية، بل هي معنيّةٌ بالتعاون وتخفيف التوتّرات وإنجاز التقدّم العلمي
رغم ذلك، يمكن القول إن ردّة الفعل الأميركية اتّسمت بالعقلانية، فالأصوات المؤثّرة في هذه الصناعة اعتبرت أن النجاح الصيني يعزّز المنافسة والابتكار ويدفع إلى تحسين المنتجات، ولم تجد فيه "ضربة قاصمة" كما يردّد إعلاميون يظنّون التنافس الأميركي الصيني معركةً طاحنةً تطير فيها الرقاب. يعرف الجانبان الأميركي والصيني كيف يتعاونان ويتنافسان في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بأسلوب يشبه دبلوماسيتهما السياسية: ثمّة حدود للتعاون وحدود للخلاف، لكن ليس ثمّة قتال حتى الموت. أكثر من ذلك؛ ليست الصين معنيةً بتدمير التكنولوجيا الأميركية كما يظن بعض ذوي الرؤوس المتحجّرة من بني قومنا، كما لو أننا في معارك داحس والغبراء، بل هي معنيّةٌ بالتعاون وتخفيف التوتّرات وإنجاز التقدّم العلمي، تماماً كما أن واشنطن ليست معنية بتدمير الاقتصاد الصيني، بل بإعادته إلى مربع التنمية عوضاً عن أحلامه الإمبراطورية في تغيير شكل النظام العالمي. كلّ واحد من البلدَين يريد من الآخر أن يتعاون معه وفق تصوّره للعالم، لكن أيّاً منهما لا يريد تدمير الآخر.
وعلى هذا، ليس غريباً أن نرى البلدان يتعاونان مستقبلاً في تطوير الذكاء الاصطناعي، ضمن تفاهمات واسعة تنهي التوتّر الحادّ، الذي افتعله الرئيس السابق جو بايدن تجاه الصين، إذ من الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة ترامب تفضل التفاهم المفضي إلى أرباح مالية في الملفّات العالمية كلّها، ولا بدّ أن الصين، التي بدا أنها فضّلت فوز ترامب وعودته إلى البيت الأبيض، ستكون قادرةً على التفاهم مع إدارةٍ هذا تفكيرها، عبر مسارات التعاون الاقتصادي والأرباح المالية المشتركة، بما في ذلك في التكنولوجيا. دليل ذلك أن الصوت الوحيد الذي أطلق تحذيرات أمنية من نجاح الذكاء الاصطناعي الصيني جاء من أستراليا، وليس من الولايات المتحدة، إذ حذّر وزير العلوم الأسترالي، إيد هاسيك، من مخاوف تتعلّق بالخصوصية تجاه التطبيق الصيني، وطلب من المستخدمين التفكير ملياً قبل تحميله، بينما لم يتحدّث الأميركيون عن مخاوف أمنية أبداً بمن فيهم ترامب، بل تناولوا الموضوع من بعده الاقتصادي، لأنه يهدّد صناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وربّما يتسبّب بإغلاق شركاتها الناشئة في هذا الحقل، فضلاً عن تسببه بخسارة شركة إنفيديا الأميركية جزءاً من قيمتها السوقية المعتمدة على بيع شرائح أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي لم تعد لازمةً وفق النموذج الصيني الجديد.
يتوافق تقديم الصين التكنولوجيا المتطوّرة مجّاناً مع مساعيها لجذب المستهلكين، فثمّة أوجه أخرى للربح أهمها "القبول"
بتعبير دقيق عن جوهر القصّة، فإن "مايكروسوفت" الأميركية كانت أعلنت توجّهها لاستثمار 80 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي خلال هذا العام 2025، كما أعلنت "ميتا" الأميركية استثمارات بقيمة 60 مليار دولار. في هذا الوقت، نجحت الصين في إطلاق نسختها المطورة من "ديبسيك" بكلفة نحو 5.5 ملايين دولار فقط، بينما كانت كلفة تدريب أحدث نسخة من "تشات جي بي تي" قد بلغت مائة مليون دولار، وهذا ما دفع ترامب للقول إن "هذه الصدمة قد تكون إيجابية بالنسبة لشركات التكنولوجيا الأميركية، لأنها بدلاً من إنفاق المليارات ستنفق أقلّ على أمل أن تصل إلى الحلّ نفسه". هذا يعني أن الإنجاز الصيني سيفتح المجال لتطوير صناعة الذكاء الاصطناعي لدى البلدَين، وربّما في أماكن أخرى من العالم، لأن ذلك سيحتاج إلى استثمارات أقلّ ممّا جرى خلال العامَين الأخيرَين، وسيكون متاحاً لمطوّرين جدد لم يكونوا قادرين على رصد المليارات.
بالنسبة لكاتب هذه السطور، ورغم أنه صديق للصين، يجد من الموضوعية القول إن النسخة مدفوعة الاشتراك من "تشات جي بي تي" لا تقلّ جودة عن نسخة "ديبسيك" المجانية، بل ربّما ما تزال تتفوّق عليها. الفارق إذاً أن الصين تقدّم التكنولوجيا المتطوّرة مجّاناً، وهذا يتوافق مع مساعيها لجذب المستهلكين وفق آلية تختلف عن تلك الرأسمالية، التي تعتمدها الولايات المتحدة وتستند فيها إلى سردية الملكية الفكرية. الصين لا تعدّ الربح محصوراً في المال كما تفعل الاقتصادات الرأسمالية، بل ثمّة أوجه أخرى للربح تحتاجها، في هذه المرحلة من تقدمّها، أهمها "القبول"، وهو الأمر الذي يمهّد لتوسّع نفوذ الصين في العالم، ويفسّر استخدامها التكنولوجيا أداة للتنافس والتعاون معاً.