الرواية اللبنانية وجينة الحرب

15 ابريل 2025

من معرض الكتاب على هامش فعالية "خمسون في خمسين" في بيروت (13/4/2025 العربي الجديد)

+ الخط -

تعود الذكرى الخمسون لاشتعال الحرب الأهلية اللبنانية، ونحن غير واثقين بتاريخَي ابتدائها وانتهائها، برغم إصرار السردية الرسمية على حشرها قسراً بين عامَي 1975 و1990، وقناعة الجميع بأننا ظللْنا ندور في فلك حربٍ أو حروب ما صدّقنا يوماً أنها باتت من مخلّفات الماضي. هذا، إن لم نجاهر أنها استمرّت جاريةً بأشكال مختلفة، ظاهرةً ومستترةً. فنحن، وبعد مرور خمسين عاماً على اشتعالها، لا يمكننا القول إنّنا دخلنا فعلاً مرحلة سلم وسلام، بل إننا كتّاباً، لا نستطيع القول إننا نكتب روايةَ الحرب بوصفها حدثاً من الماضي.
نحن في لبنان، ما زلنا نكتب الحربَ ونحن لم نبتعد عنها فعلاً، وما زالت أجواؤها حاضرةً فينا، ماثلةً أمام أعيننا، في الحجر كما في البشر. فلا البشر اتّعظوا، ولا الحجر سلم، والعمارةُ إذ صمدت فقد تخلخلتْ وتصدّعتْ تماماً كما حصل مع الشخصية الروائية اللبنانية، التي تعاني من اهتزازات وتناقضات وضنك عيش، وانكشاف أوهام وموت أحلام، وفقدٍ لرغد العيش بكرامة، أو الحقّ في تقرير المصير. حتى الذين لم تطاولهم الحربُ مباشرةً ولم يعايشوها، نالوا نصيباً من دورات عنفٍ واقتتال وتشرذم وانقسام، شكّلت لهم تركةً ثقيلةً ورثوها كما يرث الأبناء جيناتِ أهاليهم وحِمضَهم النووي. لقد ورثت الرواية اللبنانية "جينة الحرب"، إذا صحّ التعبير، جينة العنف والقسوة والخوف، فإذا بفضائها السرديّ يعكس هذا كلّه، سواء تعلّق الأمر بالعاصمة وأطرافها، أو بالريف والقرى. أمّا الشخصيات، أبطال رواية الحرب وما بعدها، فهم أبناء أسئلة الهُويَّة والانتماء والعبث الوجوديّ، وورثة العصبية الأهلية والطائفية والانهيار العمودي، حيث لا نهاية لفعل السقوط السائر بهم نحو هاوية، كأنّ لا قعرَ لها.
ساهمت الرواية اللبنانية في توثيق الحرب، تجربةً فرديةً وجماعيةً، فلم تكن مجرّد مرآة للواقع، وقد تحوّلت أداةَ نقدٍ وتأمّلٍ في معاني الهُويَّة والذاكرة، بعد أن تركت الحربُ ذات النهاياتِ العديدة المؤجّلة ندوباً عميقةً في السياسة والاجتماع والنفسيات. هكذا، في ظلّ تعثّر المصالحة الوطنية وغياب قراءة رسمية موحّدة وشاملة، برزت الروايةُ وسيلةَ توثيقٍ ومساحةَ تعبير عن الألم والفقد والشتات، بل إنها أصبحت المرآةَ العاكسةَ وعيَ اللبناني لذاته وتاريخه. وبعيداً من أنها مجرّد حكاياتٍ تُروى، قامت الرواية اللبنانية بتسجيل ما تتجاهله السياسة ويغفله التاريخ، أي الطابع الإنساني العميق في تجربة الضحية والجلّاد معاً، كما وثّقت قصص البشر العاديين في عيشهم اليومي، ما جعلها بمثابة الأرشيف الحيّ.
أيضاً، لم تسلم الروايةُ شكلاً من تأثيرات الحرب، إذ تشظّت بنيتها السردية وتفكّكت، فتعدّدت الأصوات، وغاب التسلسل الزمني، وكثرت أساليب السرد، إذ لم تعد الحربُ تروى بشكل خطّي أفقي، مع بدايةٍ وعقدةٍ وحلّ. فالنهايات غائمة ومفتوحة، والشخصيات متزعزعة كأنّها تعرّضت لزلزال، وهي تعاني من اضطرابات نفسية، وتشوّش الذاكرة، وتعدّد السرديات التي تزعم كلٌّ منها أنها تمثّل "الحقيقة الواحدة المطلقة". هكذا قاومت الرواية بأخذها مسافةً من الجماعة والطائفة والحزب، لتبيح لضمير الأنا أن يهيمن، تأكيداً للذات وابتعاداً من الجماعة، مصدر التشويش والقلق. أضف إلى ذلك أنواع الكتابة المفكّكة، بوصفها التعبير الأمثل عن عجز اللغة أحياناً عن نقل الواقع المُرعب، أو الإحاطة بالارتدادات المدمّرة لهذا الحدث الفاجعة.
تبقى نقطة أخيرة، ألا وهي النظر إلى الرواية اللبنانية أداةً لمقاومة الرغبة الهائلة لدى اللبنانيين بالنسيان، بشطب الماضي وعدم التفكّر فيه لاستخلاص العبر أو المحاسبة على الأخطاء، كأنّنا شعب، يشعر في عمقه بالذنب، مدركاً عدم براءته، لا بل تورّطه الضمني في ما يشكو منه، من انقسام ومعاداة وكراهية تكنّها الطوائفُ بعضها لبعض. تعيد الرواية كتابة الأحداث في ظلّ تعدّد السرديات، وهي إذ تفعل، تنحاز إلى الذاكرة الجماعية ضدّ النزعة المتنامية لرسم صورة مختزلة ومشوّهة عمّا جرى. إنها وسيلة لاستعادة الحقائق، ومنح الحقّ لمن نُزع منه، وتوفير فرصة التعبير لمن غُيّب صوتُه.
لقد لعبت الرواية اللبنانية دوراً مهمّاً وضرورياً في توثيق حربنا (حروبنا)، فإذا بها تقوم مقام التأريخ عندما تحفظ الذاكرة، وتعيد إعمارَ عالمٍ تهدّم، وتقوم مقام الذاكرة حين تسعى إلى استعادة ما فُقد وضاع ونُسي وغاب، ومقام الضمير الجمعي حين تحاسب الفرد كما الجماعة، مُنقّبةً في الجروح القديمة، علّها تخلّصنا من قيحها، وتمضي بنا إلى الشفاء التامّ.
(مداخلة للكاتبة في فعالية "خمسون في خمسين" التي أقامتها وزارة الثقافة اللبنانية في المكتبة الوطنية ببيروت)

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"