السعودية وباكستان... رسائل ردع أم تحوّل استراتيجي؟
وقّعت السعودية وباكستان الأسبوع الماضي اتفاقاً دفاعياً متبادلاً هو الأول من نوعه بينهما. وفي جوهره يقرّر أن "أي عدوانٍ على أحد البلدين هو عدوانٌ على كليهما". ورغم أن التعاون العسكري بين الرياض وإسلام آباد ليس جديداً، إلا أن توقيت إعلان الاتفاق الدفاعي والظروف المحيطة به يجعلانه حدثاً لافتاً، محاطاً برسائل ضمنية تتجاوز الطرفَين. تاريخياً، قدّمت باكستان خدماتٍ أمنيةً في الخليج العربي؛ آلاف الجنود والمدرّبين الباكستانيين خدموا في السعودية عقوداً. وهذه المرّة يتجاوز الاتفاق مستوى التدريب والدعم الفني إلى صياغة التزام سياسي عسكري صريح، فتدخل باكستان، الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي، رسمياً في معادلة الردع الإقليمي، وهو ما يمنح الاتفاق ثقلاً مضاعفاً.
تفيد تقارير بأن في السعودية ما بين 1500 – 2000 جندي باكستاني، في مهام تشمل تدريب قوات سعودية، وتقديم الدعم الفني واللوجستي، وتشغيل أنظمة دفاع جوي وطائرات، وهذه المهام هي امتداد لتاريخ عقود من التعاون الأمني بين باكستان والدولة الخليجية، لكنه اليوم يكتسب بعداً مغايراً، ليصبح جزءاً من تحالف دفاعي مُلزِم يُدخل القوة النووية الباكستانية، ولو بشكل غير مباشر، في معادلة أمن الخليج العربي.
يأتي الاتفاق بعد الهجوم الإسرائيلي على قطر في التاسع من سبتمبر/ أيلول الجاري، في لحظة تشهد فيها العواصم الخليجية قلقاً متزايداً من جدّية المظلة الأمنية الأميركية. لذلك، حتى لو نفت الرياض أن الاتفاق موجّهٌ ضد دولة بعينها، فإنه يوجّه رسالة إلى تل أبيب، أن الاعتداءات لم تعد بلا تكلفة. إسرائيل، التي طالما افترضت هشاشة الدفاعات الخليجية، مضطرّة اليوم لإعادة حساباتها، فرغم أن الاتفاق لا يعني بالضرورة تدخّل باكستان عسكرياً إذا هاجمت إسرائيل مجدّداً هدفاً في الخليج العربي، لكن مجرّد وجود دولة نووية في المعادلة يغيّر ميزان الردع النفسي والسياسي. ليست الرسالة إعلان حرب، بل إشارة تلزم إسرائيل بالتفكير قبل أيّ مغامرة جديدة.
بالنسبة إلى السعودية، يبدو الاتفاق الدفاعي مع باكستان مصدر خبرة عسكرية إضافية، ودعماً استراتيجياً من قوة إسلامية نووية، وهو بالنسبة إلى باكستان وسيلة لتعزيز العلاقات المالية (قروض، منح، مساعدات نفطية) والحصول على دعم سياسي. أمّا إيران التي تنظر إلى هذا الوجود الباكستاني في المنطقة بريبة منذ الثمانينيّات، وتخشى تحوّل باكستان ذراعاً عسكرية سعودية، فقد تقرأ الاتفاق جزءاً من محاولات تطويقها استراتيجياً، في اليمن، وفي مضيق هرمز، وفي الخليج عموماً، ففكرة أن السعودية قد تحتمي بمظلّة باكستان الاستراتيجية تبقى مصدر قلقٍ دائم لإيران، وتدفعها إلى توخّي مزيدٍ من الحذر.
الأرجح أن تطبيق الاتفاق سيبقى معقّداً، فلا رغبة لدى الرياض في مواجهة عسكرية مباشرة، وباكستان ليست مستعدّةً للمخاطرة بجرّ قدراتها النووية إلى صراع في جنوبي آسيا. لكن حتى من دون تدخّل مباشر، يمنح الاتفاق السعودية ورقة ضغط استراتيجية جديدة.
تابعت الهند الاتفاق بحذرٍ كثير، إذ تدرك نيودلهي أن في الاتفاق أداة ردع إضافية لصالح باكستان في نزاعها التاريخي مع الهند. وفي المقابل، حرصت السعودية على تأكيد أن علاقاتها مع الهند "أقوى من أي وقت مضى"، وأن الاتفاق ليس موجّهاً ضدها. وترى الهند، الشريك التجاري الأهم للرياض في آسيا، أن أيَّ تدهور في العلاقات قد يحمل كلفة اقتصادية كبيرة للطرفَين، ومن المرجّح أن توازن بين القلق الأمني وحسابات المصالح الاقتصادية، مكتفيةً بمراقبة التطوّرات من دون تصعيد. وبهذا المعنى، تبدو نيودلهي معنية بالاتفاق فاعلاً إقليمياً يخشى من إعادة توزيع أوراق القوة في الإقليم.
الاتفاق السعودي الباكستاني يعني اعتراف الرياض عملياً بفشل فكرة "التحالف العربي العسكري"، الذي ظلّ يُطرح منذ نصف قرن بلا نتائج ملموسة. ولذلك تتّجه إلى تحالفاتٍ عملية مع قوى مسلمة غير عربية، بالإضافة إلى الاستمرار في علاقاتها مع الغرب، ولكن بمرونة أكبر. كما يعكس الاتفاق الدفاعي انتقال السعودية من الاعتماد المطلق على واشنطن إلى بناء شبكة ردع متعدّدة المستويات، تشمل حلفاء غير عربٍ بقدراتٍ نوعية، لكنّه قد يبقى في حدود الرمزية السياسية أكثر منه التزاماً عسكرياً صارماً يكرّس تحولاً استراتيجياً، محاولاً فتح فصل جديد في معادلة الأمن الإقليمي: شرق أوسط أكثر غموضاً، وأقلّ قابلية للمغامرات المنفلتة.