الصدر بين المشاركة والانسحاب
دعا مقتدى الصدر في فبراير/ شباط الماضي، أتباعه إلى تحديث سجّلاتهم الانتخابية، الأمر الذي فُسّر استعداداً منه للعودة إلى الساحة السياسية بعد غياب دام نحو عامَين، ولكنّه عاد بعد شهر ليُعلن أنه لن يشارك في عملية سياسية مع "الفاسدين والطائفيين"، على حدّ قوله. وهو نفسه مضمون جوابه على رسالة رئيس الجمهورية الذي يدعوه إلى المشاركة في الانتخابات، فقال إن المشاركة في انتخابات تُدار "بواسطة الفاسدين والطائفيين" تعني شرعنة منظومة سياسية لا تمثّل تطلّعات الشعب.
هناك من يرى أن الانقلاب السريع في موقف الصدر من الانتخابات ما هو إلا دعاية انتخابية، تحاول فرز تيّاره بعيداً من التيّارات السياسية الشيعية الأخرى، وأنه وحده أو في رأس تيّار يقف بالضدّ من أحزاب الائتلاف الشيعي الحاكم حالياً، وأنه ما دام أتباع الصدر قد حدّثوا سجّلاتهم الانتخابية، سيغيّر الصدر رأيه لصالح المشاركة في الانتخابات في وقت لاحق. فالعبرة بالأفعال وليست في الأقوال.
يضع رأي آخر تفسيراته الخاصّة، التي لا يشترك فيها مع آخرين بالضرورة، لمعنى كلمات الصدر مثل "الفاسدين" و"الطائفية"، فتيّار الصدر السياسي مشاركٌ في الدورات البرلمانية السابقة كلّها، وأتباعه احتلّوا أرفع المناصب بالدولة، ومنها منصب نائب رئيس البرلمان ونائب رئيس الوزراء، فضلاً عن الوزارات والهيئات والسفارات ومناصب المدراء العامّين في مؤسّسات الدولة كلّها. وإنفاق الصدريين الهائل على نشاطاتهم الحزبية، وكذلك على فصيلهم المسلّح (سرايا السلام)، لم يأتيا من أموال قادمة من السماء، وإنما من الدولة التي يديرها النظام السياسي العراقي الحالي.
كما أن الصدر نفسه يدعو (بين حين وآخر) إلى "إعمار أئمة البقيع" في المدينة المنوّرة بالسعودية، وهي دعوة تثير دائماً كثيراً من ردّات الفعل الطائفية، وهو نفسه في مايو/ أيار الماضي حَمّى السجالات السياسية والإعلامية بضغطه على البرلمان العراقي من أجل إقرار عيد الغدير الشيعي عيداً وطنياً للعراقيين، وكان الشيعة يحتفلون بهذا العيد قبلها بشكل معتاد من دون مشاكل، ولم يكونوا بحاجة إلى جعله في روزنامة الأعياد الوطنية. فُهِمت الخطوة (وقتها) نوعاً من الصراع السياسي مع أحزاب الائتلاف الشيعي الحاكم، وجاء الردّ على خطوة الصدر بطرح مشروع قانون الأحوال المدنية الشيعي، ودخلنا في مزايدات طائفية سمّمت الأجواء أكثر من اقترابنا من أهداف وطنية حقيقيّة. الأمر الذي يجعل ذمّ الطائفية في خطاب الصدر أخيراً غير مفهوم.
كان الصدر، بعد إعلان نتائج انتخابات أكتوبر (2021)، صاحب حقّ في تشكيل الحكومة الجديدة، أيّد كاتب هذه السطور مسعاه، ودافع عن حقّه فيه، وأن ما حصل التفاف على الديمقراطية وإرادة الناخبين. وكانت المفاجأة انسحاب نوّابه من البرلمان، وما زال هناك من يرى أن صعود النوّاب الخاسرين لشغل مقاعد الصدريين المنسحبين ضربة كبيرة لإرادة المواطنين، ليس أولئك الذين وضعوا ثقتهم في نوّاب الصدر فحسب، وإنّما أيضاً الذين لم يصوّتوا للنوّاب الخاسرين. كان من المناسب وقتها أن يبقى نوّاب الصدر كتلةً معارضةً في البرلمان لا يشاركون في الحكومة، لا أن يفتحوا الباب لنوّاب المصادفة، الذين عملوا في دورة برلمانية كاملة ضدّ إرادة العراقيين، وضدّ مصالح البلد العليا.
في تفسير آخر لقرار الصدر الصادر أخيراً بمقاطعة الانتخابات، هناك من المؤشّرات ما يُؤكّد أن المتغيّرات الداخلية والإقليمية لن تؤدّي بالأميركيين إلى توجيه ضربة عسكرية للمليشيات "المتمرّدة" في العراق، وأن الأخيرة تتّجه بدلاً من ذلك إلى أن تكون تشكيلات سياسية، وتشارك في الانتخابات المقبلة.
سيعاد تأهيل خصوم الصدر، وسيكونون في وضع أكثر استرخاءً بعد أشهر من الضغط والشدّ النفسي، وهم بالأموال التي في أيديهم مؤهّلون للإنفاق على الدعاية الانتخابية، ولديهم جمهور "زبائني" مرتبط بهم، مثل بقية الأحزاب التي تستعمل موارد الدولة لتكوين قواعد انتخابية، وسيجد الصدر نفسه أمام المعادلة ذاتها التي رفضها عقب انتخابات 2021.