الطعام وثيقةً سياسية

19 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 03:39 (توقيت القدس)

أسرة صينية في بكين تتناول وجبة الغداء (9/4/2024 Getty)

+ الخط -

أخبرتني صديقة سورية تعيش في ألمانيا بأنها وزوجها بصدد إقامة مأدبة كبيرة بالتعاون مع منظمة كاريتاس، وعدّدت لي أسماء ما قرّرت طهيه، وقرأت لي الملخّصات التي ستضعها أمام كل طبق تشرح فيها بشكل مختصر عن المادّة الرئيسة المستخدمة في الطبق وأهميتها للسوريين. طلب أصحاب المقترح منها أن تكون المائدة نباتية بالكامل، وهذا ما سهّل عليها الحديث عن خصوصية الطعام المقدّم، فاللحوم، مهما تنوّعت طرق طهيها ذاكرة إعدادها لدى كل الشعوب تقريباً واحدة، على عكس الطعام النباتي المتنوّع الذي يختلف بين مكان وآخر منذ لحظة زراعته وحتى طهيه.

يشكل الطعام إحدى الهويات الرئيسية للبشر، فمن خلاله يمكن اكتشاف تاريخ الشعوب والحضارات وما مرّ بها من تلاقح وغزوات واحتلالات مختلفة. كما يشكل المادّة الأولى لفهم طبيعة التركيبة الجمعية لمجتمع ما، فالمجتمع الزراعي مختلف تماماً عن مجتمع الرعي، في المجتمع الزراعي المستقر ثمّة انفتاح اجتماعي يحيل إلى ندّية ما في العلاقة بين الرجل والمرأة، يتطلبها العمل في الأرض التي تحتاج جهود الجميع، وهذا بدوره ينتج أنماطاً من الطعام أكثر تنوّعاً، فالطبيعة سخية، وهذا السخاء ينعكس في تنوع الأطباق واحتوائها على مواد أولية عديدة. بينما في مجتمع الرعي القبلي أو شبه القبلي المتنقل ثمّة تراتبية مجتمعية تقصي النساء، هو مجتمع ذو لون واحد غالب، يشبه الطعام المنتج هناك: كثير من اللحم مع الرز أو البرغل والسمن العربي ومشتقات الحليب. بينما في المدن التي تستقطب الجميع سوف نجد تنوّعاً كبيراً في الأطباق واستخداماً لمواد مختلفة ومتنوّعة المصادر، وإعادة إنتاج وصفات قديمة عبر استخدام مكوّنات إضافية جديدة محلية وعالمية.

والحال أن الطعام ليس مجرّد حاجة بيولوجية، بل هو أشبه بأرشيف نحمله معنا وننتقل به من مكان إلى آخر، وفي كل مكان نحلّ به نضيف إلى هذا الأرشيف موادّ جديدة، ونترك من أرشيفنا في المكان مواد جديدة. لكن هذا الأرشيف قد يحمل في طياته صراعات وهويات وأيديولوجيات متنوّعة. فهناك خلاف حول أصل الفلافل هل ظهرت في مصر أولاً (الطعمية) أم في بلاد الشام؟ لا بأس، قد يبدو هذا "الصراع" لطيفاً أحياناً إن لم يتحول إلى صراع شوفيني قومي كاره. لكن ثمة حالة أخرى من "الصراع" حول المادة نفسها (الفلافل)، هو صراع وجودي بالكامل، فحين تحاول دولة احتلال مثل إسرائيل سرقة هذا الطبق وضمّه إلى أرشيف ذاكرتها المصطنعة أصلاً وتسعى إلى تثبيته باسمها في منظمة اليونسكو العالمية، فهذه ليست سرقة طبق تراثي، بل هي سرقة تاريخ ومحاولة استملاك ذاكرة. ... ومن جهة أخرى، ثمّة سرقة يمكن تسميتها الطبقية، حين تنتقل أطباق الطبقات الفقيرة إلى موائد الأغنياء لتصبح نوعاً من (الإيكزوتيك) يباع بسعر مرتفع جداً بحيث لا تعود للفقراء إمكانية شرائه، ويتحوّل الطبق نفسه إلى سلطة استبداد جديدة ضد الفقراء (هناك نوع من الفاكهة الموسمية في مصر تسمّى الحرنكش كانت فعلياً فاكهة الفقراء لرخص ثمنها، فجأة بدأ الحديث عن فوائدها لنضارة البشرة فارتفع ثمنها بشكل مبالغ فيه جداً ولم يعد بإمكان الطبقات الفقيرة شراء حتى بضع حبّات منها).

الحديث عن الطعام طويل جدّاً لا يرتبط فقط بالغرائز البشرية وعادات البشر في المآتم والأفراح، حيث لكل مناسبة أطباقها الخاصة، بل يرتبط أيضاً بالسياسة، بالحروب، بالرخاء، بالعدالة، بالظلم... في ألمانيا هناك نوع من الخبز اخترعته النساء في أثناء الحرب العالمية الثانية، حين فقدت مادّة الطحين، صنعنه من حبوب برّية حوّلوها إلى طحين وإلى خبز ما زال أغلى أنواع الخبز الألماني، لا بسبب ندرة موادّه، بل بسبب قيمته في الذاكرة الجمعية الألمانية. أجزم أن الطعام الذي اخترعته نساء غزّة في أثناء الحصار سوف يبقى في التاريخ وفي الذاكرة، وسوف يتحول مع الزمن إلى طعام كينوني ضمن محاولات محو الهوية الغزّية من الوجود.

نحن نحمي هويتنا القومية من المحو في الصراع الهوياتي المحلي والعالمي حين نعيد إنتاج عاداتنا في الطعام الذي يتحوّل، بشكل ما، إلى وثيقة سياسية وهوية شخصية تساعدنا على البقاء.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.