المتصهينون واستكمال التّصهيُن
(معمّر مكّي)
بقدر ما أتاح اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة المجال لوقف آلة القتل الوحشية الإسرائيلية، التي عملت على مدار الأشهر الخمسة عشر الماضية، بقدر ما أدّى إلى لجوء بعض المتصهينين إلى حجج وأساليب جديدة، لممارسة هوايتهم المفضلة في التضليل والتخذيل. بدأت هذه الاستراتيجيات بالهجوم على مشاهد استعراض المقاومة لمقاتليها وأسلحتها، في أثناء تسليم الأسرى الإسرائيليين، بدعوى أن هذه المشاهد تؤدّي إلى استفزاز الإسرائيليين، وأن هذا سيمنحهم ذريعةً لنقض الاتفاق وإنهاء الهدنة والعودة إلى الحرب.
يشبه هذا الادعاء تماماً ما قيل عند بداية العدوان الإسرائيلي، إذ اتُهمت حركة حماس بأنها "تسبّبت" في المأساة الإنسانية التي عاناها أهالي غزّة، رغم أنها لم تفعل أكثر ممّا فعلته أيّ حركة مقاومة تحترم نفسها، ألا وهو مقاومة المحتلّ، لكن هؤلاء لم يخجلوا من اعتبار ذلك دليل إدانة. وبغض النظر عن أن الاحتلال لا يحتاج إلى مبرّرات، إذ يرتكب آلاف الجرائم من دون أيّ حجج، إلا أن استعراضات المقاومة أدّت إلى عكس ما ادّعاه هؤلاء بالضبط، فقد فجّرت تساؤلات في داخل إسرائيل عن جدوى استمرار الحرب طوال هذه المدّة، بدعوى تحقيق النصر المطلق، والقضاء التامّ على المقاومة، بينما وضحَ أن المقاومة لا تزال تتمتّع بقوتها، وأنها تستطيع تعويض ما فقدته من مقاتلين وأسلحة وذخيرة، فإذا كانت إسرائيل فشلت طيلة الحرب في كسر المقاومة، فإنّ أيّ عودة إلى الحرب لن تحقّق نتائج أفضل، وهو ما ترسّخ عبر هذه الاستعراضات.
كما أثارت هذه المشاهد مشاعر غضب في داخل المجتمع الإسرائيلي، خاصّة أن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو سبق أن رفض وقف الحرب في مايو/ أيار 2024، بحجّة أن الضغط العسكري هو الذي سيؤدي إلى إطلاق سراح المحتجزين في غزّة. لكن خلال الفترة من مايو وحتى وقف إطلاق النار، لم يتغيّر شيء، سوى قتل المزيد من الأسرى والجنود الإسرائيليين، وكان يمكن (بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي وأهالي الأسرى والجنود المقتولين) الحفاظ على حياة أبنائهم، طالما أن نتنياهو رضخ في نهاية المطاف، واضطر إلى التفاوض من أجل إطلاق سراح الأسرى، وليس عبر الضغط العسكري المزعوم.
يتعامل المتصهينون مع سياسات الاحتلال وقراراته كأنّها قَدرٌ محتوم، لا سبيل إلى ردّ قضائه، بينما ظهر واضحاً أن هذا التفكير ساذج وغير واقعي، إذ يستبعد أيّ عوامل أو تحركات أخرى، سواء من جانب المقاومة، أو من غيرها، فمشاهد فرحة أهالي الأسرى الإسرائيليين بعودة ذويهم، شجّعت المجتمع الإسرائيلي على المطالبة باستكمال الصفقة، حتى نهايتها، رغم أن نفس المجتمع يؤيّد حرب الإبادة بحقّ أهالي غزّة، كما يؤيّد خطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تهدف إلى تهجيرهم، إضافةً إلى أن أهالي الأسرى الذين بقوا داخل قطاع غزّة، ولم يُطلق سراحهم خلال المرحلة الأولى، سيضغطون بقوتهم كلّها للذهاب إلى المرحلة الثانية، إذ لن يقبلوا عودة البعض وهلاك الباقين.
بعد الهجوم على مشاهد استعراض القوّة، جاء الدور على انتقاد قرار المقاومة تأجيل تسليم الدفعة السادسة من الأسرى الإسرائيليين، بسبب عدم التزام الاحتلال ببنود الاتفاق، واستند هؤلاء في هجومهم على قرار المقاومة إلى نفس الحجّة، وأن هذا القرار يمنح ذريعة للاحتلال، وأنه مغامرة غير مأمونة العواقب، وأن الاحتلال سيفعل الأفاعيل جراء هذا التأجيل، لكن مسار الأحداث أجهض مزاعمهم، إذ أذعن الاحتلال وسمح بالبدء بالبروتوكول الإنساني، بما يتضمّنه من إدخال خيم ومساكن متنقّلة وأدوية وجرّافات. وأخيراً، استمرّت حالة "الانتقاد اللاإرادي" لدى هؤلاء، ضدّ كل ما تفعله المقاومة، إذ تصايحوا مُعرِبين عن استيائهم وحزنهم من طريقة تسليم جثمان إسرائيلية وابنيها، كانت إسرائيل قتلتهم بغارة جوّية على قطاع غزّة. وعدد من هؤلاء لم ينبسوا ببنت شفة طوال أشهر حرب الإبادة الإسرائيلية، ولم ينشروا ولو صورة واحدةً لشهيد فلسطيني، ولم يتحدّثوا عن جرائم إسرائيل على الإطلاق، لكنّهم اكتشفوا أن لديهم ألسنة يستطيعون بها الحديث، فكان أوّل ما فعلوه هو تباكيهم على ثلاثة إسرائيليين قتلتهم إسرائيل نفسُها، مثلما قتلت أكثر من 48 ألف فلسطيني، ولم ينسَ بعضهم كذلك، الزعم بأن مشاهد توابيت الجثامين ستدعم استئناف الحرب بعد انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق، رغم أن هذه المشاهد توصل رسالةً قويةً إلى المجتمع الإسرائيلي، مفادها بأن العودة إلى الحرب معناها عودة باقي الأسرى في توابيت، فضلاً عن الجنود الذين سيقتلون في المعارك.