المثقّف العضوي السوري

29 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 02:35 (توقيت القدس)
+ الخط -

حين كتب غرامشي عن المثقّف العضوي المرتبط بقضايا طبقته وشعبه، لم يكن يتوقع أن يتكئ مثقفون سوريون على محمل أفكاره لتطبيقها على انحيازاتهم الطائفية. كان غرامشي سياسياً بارزاً في إيطاليا، وانتسب مبكّراً إلى الحركة الشيوعية، أفكاره وتنظيراته عن المثقف العضوي كانت تتوجّه نحو المثقّف اليساري، ونحو الشعب بطبقاته المجتمعية والاقتصادية، لا الدينية والمذهبية. كان يتحدّث عن شعبٍ لا علاقة له بتصنيفات ما دون الدولة، عن شعبٍ منخرطٍ في نقابات وأحزاب، كان يقصد، بالتحديد، طبقات العمال والفلاحين من أبناء الشعب الإيطالي. أما المثقف العضوي فهو ابن هذه الطبقات الذي عليه واجب صياغة مبادئها العامة السياسية والاجتماعية والأخلاقية لبناء وعيها السياسي وتطوير إيديولوجيتها الخاصة بما يساعدها على بسط هيمنتها الثقافية والسياسية. كان غرامشي ابن إيديولوجيا سياسية، تنظيراته سياسية واقتصادية. والمثقف العضوي الذي كتب عنه مترفّع عن الشعبوية لصالح بناء صيغة شاملة تؤطّر هذه الطبقات المجتمعية في إطارٍ من الوعي اللازم لنيل حقوقها واحتلال مكانتها التي تستحق.

يستعيد اليوم مثقفون سوريون أفكار غرامشي عن المثقف العضوي، ويطلقون على أنفسهم هذا اللقب، حين يعلنون انحيازهم للشعب السوري في نضاله لنيل حقوقه. حدث هذا منذ بداية الثورة عام 2011 واستمرارها طوال السنوات التالية لها مع كل افتراقاتها وتحوّلاتها القاتلة إلى ثورة جهادية سلفية سنّية لا تشبه شيئاً من مبادئ انطلاقتها الأولى. خلال تلك المرحلة من تحوّلات الثورة، ظهر "المثقف العضوي السوري" الذي لم يجد مشكلةً لا في التسليح ولا في الأسلمة ولا في تحوّلات الثورة وانقلاباتها؛ وحجته في ذلك: نبض الشعب الثائر ورغبته، من دون الاكتراث بأن نبض الشعب الثائر وقتها كان مشوّشاً بسبب العنف والقتل، وأن هذا النبض كان يحتاج توجيهاً مدنياً سياسياً ليأخذ دوره الحقيقي في الثورة والتغيير، بدلاً من حرف الثورة والتغيير عن مسارهما المأمول.

اعتبر "المثقف العضوي السوري" أن مجرد وقوفه مع خيارات الشعب هو التزام منه بدوره بصفته مثقفاً عضوياً، من دون أن يضع موقفه قيد التأمل والتشريح والنقد، من دون أن يتساءل، أساساً، هل خيارات هذا الشعب واعية أم هي نتيجة الخطر المحدق به من كل حدب وصوب، ونتيجة التهديد الوجودي الذي يتعرّض له يومياً؟ المثقف العضوي الحقيقي هو من يضع الأفكار السائدة على منصّة التشريح قبل تبنّي أي فكرة منها، ثم يضع فكره على المنصّة نفسها كي يتمكّن من فهم نوازعه وأسباب انحيازه للخيارات الشعبية. عليه أن يكون واعياً انحيازاته وأسبابها العميقة. مثل وعيه أسباب الخيارات الشعبية.

والحال، ثمّة فارق كبير بين أن يكون المثقف عضوياً وأن يكون شعبوياً، يرتبط الأول بقضايا شعبه، ليس عبر خطاب شعبوي يناسب الغرائز القطيعية، بل عبر تفاعل واع مع الشعب والمجتمع، يساعدهما فيه على إدراك مصلحتهما الحقيقية في التغيير الإيجابي. المثقف العضوي أيضاً لا يذوب في الغوغائية الشعبية، ولا يتماهى بعبثية مطلقة مع الجماهير الهائجة، فهذا التماهي يلغي الحرية تماماً، بينما دور المثقف تعزيز مبادى الحرية بكل أشكالها، وفي مقدمها حرية التعبير التي يهدّد انعدام وجودها أي مجتمع بالفشل.

ثمّة مثقفون سوريون كبار كانوا إلى يوم قريب من أكبر دعاة الحرّية، يكتبون اليوم عن ضرورة التأنّي بالنقد أو ضرورة الاستماع إلى ما تريده الأغلبية الشعبية، ويبرّرون ذلك بأن الشعوب على حقٍّ دائماً، ومن حقّ الشعب السوري اليوم أن يختار من يريد طالما يشكّل هو الأغلبية. يتناسى هؤلاء أن الشعب السوري الذي عانى الأمرّين خلال السنوات الماضية هو لم يبدأ بعد في مرحلة التعافي النفسي التي تضمن له وعياً كاملاً بخيارات مستقبل بلده، وأن خياراته اليوم محكومةٌ بغريزة البقاء التي لا تبدو له إلا من خلال الدين والمذهب والطائفة، وهو أيضاً ما تعمل السلطة الحاكمة اليوم على تكريسه فهو يضمن بقاءها أمداً طويلاً. ثمة مثقفون ينحازون للشعبوية ليس خدمة للشعب، بل خدمةً لصراع داخل أفكارهم ينتصر فيه الانحياز المذهبي القبلي على الانحياز الوطني الجامع المضادّ لكل ما تمارسه السلطة الحالية، والتي تبنّت ذهنية النظام السابق لها بامتياز.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.