المخاض السوري توليفة أميركية جديدة
لم يتردّد رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في الإجابة عن سؤال صحافي قناة "آي 24" الصهيونية إن كان يؤمن بـ"إسرائيل الكبرى" بالقول نعم؛ وانطلق بالحديث عن شعوره بأنه في مهمة تاريخية وروحية، وعن أجيال ستقيم هذا الكيان، الجيل الأول أقام الدولة والأجيال القائمة والقادمة ستكمل المهمة. "إسرائيل الكبرى" المشار إليها تشمل سورية ولبنان والعراق والأردن والكويت وأجزاء من مصر والسعودية وتركيا بالإضافة إلى القلب: فلسطين.
ليس الحديث عن إقامة "إسرائيل الكبرى" بجديد، فقد سبق وقال به مسؤولون في الكيان وطبعت خريطتها في ثمانينيات القرن الماضي على أحد وجهي قطعة نقدية صهيونية من فئة العشرة أغورا، لكن الخطير في جواب نتنياهو توقيته، فهو يأتي في ظل وجود إدارة أميركية تتبنى كل مواقف اليمين الصهيوني الحاكم، لا تغض النظر عن اعتداءاته خارج كيانه فقط بل وتمده بالسلاح والمال والغطاء السياسي، وهو ما أكده وجود وزير خارجية الإدارة ماركو روبيو في الكيان في يوم عقد القمة العربية الإسلامية للتضامن مع قطر ضد العدوان الصهيوني وحديثه عن متانة العلاقة مع الكيان وثبات الدعم، وقد تكررت تصريحات مسؤولين في هذه الإدارة تشكك في منطقية الحدود القائمة بين دول المشرق العربي والقول بحق الكيان في توسيع حدوده؛ جاء أولها على لسان رئيس هذه الإدارة دونالد ترامب، الذي قال: "مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها"، قبل أن تتتالى تصريحات المسؤولين من قول سفير الإدارة لدى الكيان الصهيوني مايك هاكابي، في مقابلة مع بي بي سي يوم 11 يونيو/ حزيران الماضي: "إن الدول الإسلامية تمتلك أراضي تفوق مساحتها ما تسيطر عليه إسرائيل بـ644 مرة"، واقتراحه "أن تتخلى دول إسلامية عن بعض أراضيها لإقامة دولة فلسطينية مستقبلية"، مرورا بسفيرها في تركيا ومبعوثها الخاص إلى سورية، ولبنان لاحقا، توماس برّاك، الذي اعتبر في رده على سؤال الناشر الأميركي ماريو نوفل حول حدود سايكس – بيكو احتلال الكيان أراض عربية أمرا طبيعيا، حيث قال: "هذه الخطوط التي رُسمت كحدود سايكس - بيكو لا معنى لها، سيذهبون حيثما يشاؤون، وقتما يشاؤون، ويفعلون ما يشاؤون لحماية الإسرائيليين وحدودهم"، إلى قول مسؤول في الإدارة، وصفته صحيفة الهيل الأميركية، التي نقلت قوله يوم الأول من يوليو/ تموز الماضي، بـ"الكبير": "إن الحدود الحديثة لإسرائيل رُسمت على أسس وهمية"، و"إن القيمة ليست للحدود، القيمة لمن على جانبيها". المشكلة الأخطر ليس تأييد الإدارة الأميركية لسياسات الكيان وغضها النظر عما يقوم به في الأراضي التي اعتبرها قرار التقسيم رقم 181، الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947، أرض الدولة الفلسطينية، مصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات، توسّع الكيان منذ قيامه قبل 77 عاماً بنحو 95 كيلومتراً مربعاً سنوياً، واعتداءاته على دول الجوار العربي والإقليمي، بل في عدم وضوح موقفها من مستقبل الصراع والخرائط النهائية للإقليم التي تعمل على تكريسها تحت شعار تحويله إلى إقليم قائم على الشراكات والتعاون، إقليم مستقر ومزدهر، حيث تعددت الإعلانات والتصورات التي طرحها أركانها، كان توماس برّاك قد أثار حيرة المعلقين والمراقبين في الإقليم حين هاجم اتفاقية سايكس - بيكو واعتبر هدفها "ليس السلام بل المكاسب الإمبريالية"، و"إن زمن التدخلات الغربية قد ولى، المستقبل للدبلوماسية القائمة على الحلول الإقليمية، والشراكات، والاحترام المتبادل"، مضيفا "لقد وُلدت مأساة سورية من رحم الانقسام. ولا يمكن أن تولد من جديد إلا عبر الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها. وهذا يبدأ بالحقيقة والمساءلة والتعاون مع أبناء المنطقة، لا بتجاوز المشكلة دون حلها"، وختم "نحن، إلى جانب تركيا ودول الخليج وأوروبا، لا بالجنود والخطب والحدود الوهمية، بل إلى جانب الشعب السوري ذاته". ما دفع المعلق التركي النابه نديم شنر إلى التساؤل حول هذا الإفراط في "الود والغموض"، والكاتب السوري بشار الحاج علي إلى اعتبار عباراته "ثقيلة ومراوغة". وقد زاد غموض موقف الإدارة وهدفها في الإقليم اتهام مسؤول في الإدارة القوى الغربية بـ"تشويه" المنطقة عبر اتفاقيات سايكس - بيكو ومشاريع التقسيم، وانتقاده مفهوم الدولة القومية في الشرق الأوسط، لم تثبت نجاحها، والمستقبل قد يتطلب نموذجاً جديداً، وإشادته بنموذج الحكم في الإمبراطورية العثمانية، لم تكن تتشكل من دول قومية، بل سمحت لكل منطقة بإدارة شؤونها ضمن نظام قضائي مركزي، تقرير صحيفة الهيل الأميركية المذكور أعلاه.
لم يعد هدف حفظ أمن الكيان يقتصر على حمايته عبر ضمان تفوقه عسكرياً على كل الدول العربية فقط بل وعلى لعبه دوراً مهيمناً في الإقليم
نظر محللون سياسيون سوريون وأتراك وعرب إلى التصريحات الأميركية السابقة بعين الريبة والقلق لما تنطوي عليه من غموض والتباسات وما تحتمله من تفسيرات وتخمينات أبسطها التبشير بمشروع إقليمي أميركي جديد بصيغة تُخالف النموذج الأوروبي القديم، صيغة تقوم على تقاسم النفوذ وفق تقاطع المصالح لا وفق خرائط وحدود جديدة، صيغة ترتكز على مفاهيم جديدة مثل أولوية التنمية الاقتصادية والشراكات الإقليمية من دون ربطها بالعدالة والمساواة والتغيير الديمقراطي والسيادة الوطنية، عكس برّاك هذا التوجه بقوله لصحيفة نيويورك تايمز "إن التقدم في مساري الديمقراطية والحكم الشامل لن يتحققا في سورية بسرعة"، مشدداً على "أنهما ليسا جزءاً من المعايير الأميركية".
تعكس تصريحات مسؤولي الإدارة الأميركية ملامح مشروع لنظام إقليمي متكامل، بما في ذلك إعادة صياغة سورية ولبنان بعد خروجهما من تحت النفوذ الإيراني وإدماجهما فيه، تعمل على صياغته لتحقيق ثلاثة أهداف: حفظ أمن الكيان الصهيوني ودمجه في الإقليم، منع بروز قوى سياسية محلية معارضة لهذا التوجه، منح الولايات المتحدة أفضلية في العمل والحركة في الإقليم على حساب خصومها الدوليين: روسيا والصين، وذلك باعتماد سياسة "السلام بالقوة" الذي أعلنت عن تبنيها له من خلال إعادة تسمية وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بوزارة الحرب، قال وزير الدفاع الأميركي بيتر بيريان هيغسيث خلال مراسم توقيع الأمر التنفيذي بهذا الخصوص: "إن التغيير ليس مجرد إعادة تسمية، بل هو استعادة لهوية الوزارة"، شدّد على أهمية الكلمات وتأثيرها، وأضاف "سوف نهاجم، لا ندافع فقط. فاعلية قتالية قصوى، لا قانونية فاترة. تأثير عنيف، لا تصحيح سياسياً. سنُربي محاربين، لا مجرد مدافعين"، وأكد "أن تحقيق السلام لا يكون إلا عبر القوة"، وهو ما يتطابق مع توجه نتنياهو في تعاطيه مع الفلسطينيين والدول العربية والإقليمية، لعل هذا يفسر صمت الإدارة عن احتلال الكيان مساحة شاسعة من الأرض السورية في محافظتي القنيطرة ودرعا وقصفه المتكرر لمواقع عسكرية في طول الأرض السورية وعرضها، رغم ما تظهره هذه الإدارة من حرص على استقرار السلطة السورية الجديدة واحتضانها لها، فالعدوان والضغط العسكري هما الوسيلة العملية لتنفيذ سياسة السلام بالقوة، حيث لم يعد هدف حفظ أمن الكيان يقتصر على حمايته عبر ضمان تفوقه عسكرياً على كل الدول العربية فقط بل وعلى لعبه دوراً مهيمناً في الإقليم عبر قيامه بدور رئيس في هندسته جيوسياسياً. وهذا يستدعي من وجهة نظر الإدارة الأميركية والكيان الصهيوني ترتيبات للسيطرة على الممرات المائية وعلى خطوط سير أنابيب النفط والغاز والاستحواذ على حصة وازنة من موارد الإقليم وثرواته.
ثمة سعي لتحويل الخرائط السياسية إلى خرائط أمنية واقتصادية، وإعادة صياغة وظيفة الدولة لتكون جزءاً من نسق إقليمي مفتوح يستجيب لتوازنات خارجية، أي دولة بسيادة شكلية
لا تستهدف سياسة فرض السلام بالقوة إعادة رسم الحدود السياسية بشكل رئيس بقدر ما تقوم على الدفع نحو سيادة نمط من الدول والأنظمة السياسية قائمة على التوازنات المجتمعية أكثر منه على المؤسسات الوطنية وإدماجها وظيفياً في منظومات أمنية واقتصادية تجعل من الخريطة السياسية امتداداً لخرائط المصالح وتوجيهات الخارج، وهو ما يحاول المبعوث الأميركي توماس برّاك الترويج له في سورية وتمريره بهدوء وبالتدريج، بحيث تُنتج فيها دولة ونظام سياسي بشروط الاندماج الوظيفي في شبكة علاقات إقليمية ودولية دون اعتبار للسيادة الوطنية وحق الشعب في صياغة عقده الاجتماعي ووضع دستور أساسه المواطنة والعدالة والمساواة والحريات العامة والخاصة. ما يعني تحويل الخرائط السياسية إلى خرائط أمنية واقتصادية، وإعادة صياغة وظيفة الدولة لتكون جزءاً من نسق إقليمي مفتوح يستجيب لتوازنات خارجية، أي دولة بسيادة شكلية.
السؤال الآن: هل تعي السلطة السورية الجديدة طبيعة المرحلة وحقيقة السياق الذي تستدرج إليه وما يمكن أن يترتب عليه من نتائج خطيرة أم تسير مغمضة العينيين يحدوها أمل البقاء، والبقاء فقط، كما تعكسه زيارات برّاك والاستقبالات الحميمة بالأحضان والقُبل.