الهُويَّة الوطنية بين "الممتازين" و"العاديين"

04 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 11:37 (توقيت القدس)
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في زمن يتآكل فيه المعنى الوطني تحت ضجيج الاستقطاب وتضخّم الهُويَّات الفرعية، بات موضوع الهُويَّة الوطنية يُمثّل إحدى المسائل التي تثير كثيراً من الجدل والمناقشات الحادّة والعميقة، لأنه يؤدّي إلى جملة من الإشكاليات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في أغلب الدول والمجتمعات الانتقالية والمضطربة، وخصوصاً التي تعيش أوضاعاً غير مستقرّة بسبب التنوّع القومي والمذهبي والديني العشائري، وعدم التوصّل إلى تفاهمات لإدارته بصورة مقبولة.
في هذا السياق، لم تعد الهُويَّة الوطنية مجرّد شعور أو انتماء رمزي، بل تحوّلت معركةً يوميةً بين من يسعى لتجزيء الوطن إلى مصالح ضيقة، ومن يرى فيه مساحةً جامعةً للتعدّد والاختلاف، وهو ما جعل من موضوع الحفاظ على الهُويَّة الوطنية تحدّياً لمفهوم الانتماء نفسه، وفيه يختبر المواطنون القدرة على الجمع بين الاعتزاز بالجذور والانفتاح على المستقبل، بين الأصالة ومتطلّبات العصر، ليظلّ الوطن رابطاً لا فاصلاً. وعند هذه النقطة، يبرز سؤالٌ لا مفرّ منه: هل الهُويَّة الوطنية تُبنى لتكريس امتيازات فئة "الممتازين" تجعل من الوطن مرآةً لمصالحها الضيّقة وروايتها الأحادية؟ أم أنّها تتجسّد في معاناة "العاديين" وتطلعاتهم، هم الذين يصنعون يومياً معنى الانتماء بصبرهم وتضحياتهم؟

التاريخ السوري يكشف أنّ الهُويَّة لطالما أعادت إنتاج نفسها في لحظات الشدّة

بين هذين الحدّين، تتأرجح السياسات والخيارات، وتُختبر حقيقة الهُويَّة الوطنية: هل هي أداة إقصاء وتفاضل، أم عقد اجتماعي جامع يُعيد للوطن صورته الجامعة؟... تأخذ هذه الإشكالية النظرية في الحالة السورية، اليوم بعد إسقاط نظام بشّار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، أبعاداً أكثر حدّة. فبعد أكثر من عقد من الثورة التي حوّلها نظام الأسد حرباً وانقساماتٍ، لم يعد الانتماء السوري يُختزل في حدود الدولة والجغرافيا، بل تفتت هُويَّات فرعية متصارعة طائفية وقومية ودينية ومناطقية. جعل هذا الواقع مسألة الهُويَّة الوطنية أكثر إلحاحاً، لأنها لم تعد شعوراً وجدانياً فحسب، بل صراعاً يومياً بين من يسعى إلى إعادة تعريف سورية في مقاس جماعته، وبين من يرى فيها فضاءً جامعاً يعلو على الانقسامات كلّها.
في هذا المشهد السوري الجديد، برزت ثنائية "الممتازين" و"العاديين"، فبعض القوى السياسية والمجتمعية تحاول تكريس امتيازات جماعاتٍ بعينها، باعتبارها أكثر "تضحية" أو "شرعية"، لتحتكر بذلك رواية الوطن، بينما الغالبية من السوريين "العاديين" ما زالوا يصنعون يومياً معنى الانتماء بصبرهم وتشبّثهم بالحياة والأرض. هذا التراتب يعيد إنتاج الخلل الذي عاشته سورية عقوداً، ويهدّد بتحويل الهُويَّة الوطنية أداةَ فرز جديدة، بدل أن تكون مظلّةً جامعة.
ولعلّ جوهر الأزمة في أنّ سورية، وهي تدخل مرحلةَ ما بعد الاستبداد، لم تتوصّل بعد إلى صيغة عقد اجتماعي جديد ينظّم علاقة المواطن بالدولة على قاعدة المساواة. فصعود الهُويَّات القومية والطائفية والجهوية، وما يرافقها من نزعات انفصالية أو مطالب حكم ذاتي، يضع الهُويَّة السورية الجامعة أمام اختبار وجودي. والخطر الأكبر أن تتحوّل سورية فسيفساء متناحرةً، يتنافس كل مكوّن على تعريف "الوطن" وفق مصالحه الضيّقة، ما قد يقود إلى حرب أهلية طويلة الأمد ويفتح الباب أمام وصايات إقليمية ودولية.
لكن أزمة الهُويَّة ليست قدراً محتوماً، فالتاريخ السوري يكشف أنّ الهُويَّة الوطنية لطالما أعادت إنتاج نفسها في لحظات الشدّة. ورغم ما تعرّض له السوريون من تهجير وانقسام، إلا أن الشعور بالانتماء إلى سورية فكرةً وذاكرةً وإرثاً لم يختفِ. هنا يبرز التحدّي: كيف يمكن تحويل هذا الانتماء الخامّ هُويَّةً وطنيةً مدنيةً جديدةً، هوية لا تنكر الخصوصيات ولا تذيبها، بل تديرها في إطار قانوني عادل يساوي بين "الممتاز" و"العادي"، فلا يبقى أحد فوق القانون أو خارج المواطنة؟

الهُويَّة مظلّةٌ للحياة المشتركة، لا سلاحًا جديدًا في معركة الفرز

يمكن التأكيد أنّ الهُويَّة الوطنية تمثّل التزاماً يتجاوز البراغماتية أو المصالح، فهي عهد غير مشروط، لا يقوم على موازين الربح والخسارة، ولا يقاس بمنفعة آنية أو مكسب شخصي، بل هي التزام إيماني وأخلاقي قبل أن تكون قراراً سياسياً. ومن هذا المنطلق فإنّ إعادة بناء الهُويَّة السورية اليوم تتطلّب تجاوز المحاصصة والانقسامات، والتركيز في الصالح العام لجميع المواطنين، والانتقال إلى هُويَّة تُبنى على المواطنة المتساوية، وتؤمن بأنّ التنوّع مصدر قوة لا تهديد.
وفي هذا السياق، يذكّرنا الكاتب توفيق السيف، في مقالته الشهيرة "المواطن الممتاز والمواطن العادي"، بأنّ الإنسان حين يكون قادراً على التعبير عن نفسه وثقافته ودينه وانتمائه ضمن إطار القانون الوطني، يلتقي الجميع في أرض واحدة، حيث تمثّل الهُويَّة الوطنية مظلّةً حاميةً لكل الانتماءات الأخرى.
تقف سورية في هذه اللحظة الفاصلة من تاريخها أمام مفترق طرق، فإمّا أن تُدار بعقلية "الممتازين"، فتتّجه نحو مزيد من الانقسام والضعف، أو أن تتبنّى هُويَّةً وطنيةً جامعةً قادرةً على استيعاب كل أبنائها بمختلف انتماءاتهم. ذلك هو الرهان الحقيقي لمستقبلها؛ أن تكون الهُويَّة مظلّةً للحياة المشتركة، لا سلاحاً جديداً في معركة الفرز والاقتسام.