بؤس الانعزالية وأوهام الخصوصية
جاءت المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في درعا جنوبي سورية قبل أيّام، وأسفرت عن ارتقاء شهداء وإصابة آخرين، وقبلها مجزرة بلدة كويا أواخر الشهر الماضي (مارس/ آذار)، لتمثّلا صفعةً على وجه من كانوا يتصوّرون أن بالإمكان التعايش مع الاحتلال، بل كانوا يسخرون من أيّ دعوات للتصدّي للتمدّد الإسرائيلي في المدن السورية، ويطالبون بالتطبيع مع تل أبيب، بذريعة أن القضايا العربية لا يجوز "التورّط" فيها. فلم تكتف قوات الاحتلال الإسرائيلي بالقصف والقتل، بل أجبر القصف أهل البلدة على النزوح، في مشاهد أعادت إلى الأذهان ما تفعله إسرائيل في قطاع غزّة والضفة الغربية وجنوبي لبنان. وقد مثّلت هذه المشاهد ذروة الإجرام الإسرائيلي ووقاحته، إذ سبق أن قُتل سوريون عديدون في عمليات قصف سابقة على مدار الأشهر الماضية، فضلاً عن مئات الغارات الجوية التي أسفرت إحداها عن استشهاد أربعة سوريين وإصابة 19 آخرين.
لم تتأخّر بداية مثل هذه الدعوات إلى الانعزالية، فقد بدأت بعد إسقاط نظام المخلوع بشّار الأسد مباشرة. تقوم هذه الدعوات على التبرّؤ من أيّ قضايا جامعة، ومحاولة النأي بالنفس عنها، والانكفاء على القضايا الداخلية، بدعوى خصوصية التجربة تارة، وادّعاء الحكمة وبُعد النظر تارة أخرى، على طريقة "أميركا أولاً" التي يروّجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. أنتجت هذه الدعوات سلوكيات عديدة مذهلة في نذالتها من بعضهم، من قبيل سبّ الشعب الفلسطيني، والهجوم على عدد ممّن ذهبوا إلى سورية للاحتفال مع الشعب السوري بإسقاط النظام، بل والتحريض عليهم، وتجاهل أيّ ضرر لحق بهم من جراء هذا التحريض، والتبرير لمثل هذه الأفعال.
ليست هذه الدعوات غريبةً عن المشهد السياسي خلال العقد ونصف العقد الماضيين، ففي كلّ دولة عربية شهدت حراكاً مماثلاً، وجدنا بعضهم يبدي تذمّره من آراء مواطنين عرب بشأن ما يجري في بلدهم، بزعم أن بلدهم له خصوصية وظروف فريدة من نوعها، على الآخرين تفهمها ودراستها جيّداً قبل أن يتجرّأوا ويدلوا بدلوهم في الأحداث الجارية.
يسخر بعضهم من أيّ دعوات إلى التصدّي للتمدّد الإسرائيلي في المدن السورية، ويطالبون بالتطبيع مع تل أبيب، بذريعة أن القضايا العربية لا يجوز "التورّط" فيها!
في تونس، على سبيل المثال، احتفى بعضهم بالانقلاب الذي قاده قيس سعيّد على المؤسّسات، وتنصيب نفسه حاكماً مطلقاً، وذلك نكاية بحركة النهضة (الإسلامية)، التي كانت لها الأكثرية في البرلمان، كما هلّلوا للإجراءات القمعية كلّها، التي تبعت ذلك، من قبيل حلّ المؤسّسات واعتقال المئات، مؤكّدين أن المنتقدين لسعيّد ليست لديهم أيّ معرفة بالشأن التونسي، وأن المستقبل سيكون مختلفاً تماماً عن تصوراتهم، وهو ما سمعته من تونسيون عديدون. لكن ما جرى كشف أن تونس تنهل من الماعون السلطوي البائس نفسها، وأن الخصوصية المزعومة ليست إلا وهما في عقول بعضهم.
فرضية أخرى روّجها بعض داعين إلى عدم الردّ على جرائم الاحتلال، تفيد بأن إسرائيل غير قابلة للهزيمة، لأنّها مدعومة من الولايات المتحدة، وأن الحلّ في الصمت واتباع خطّة طويلة المدى، تؤدّي إلى تنمية البلاد العربية وتقويتها، قبل إعلان المواجهة مع إسرائيل. المثير للدهشة أن هذا الطرح يأتي بعد اتضاح هشاشة إسرائيل، بعدما استطاع مئات المقاتلين هزيمة جيشها خلال ساعات، مثلما رأينا صوتاً وصورة. كما أن الولايات المتحدة نفسها تعرّضت للهزيمة في فيتنام وأفغانستان وأماكن أخرى، فكيف استنتج هؤلاء أن إسرائيل لا تُهزم، وأن الولايات المتحدة لا تقهر؟ ومن أين جاءوا بهذه الثقة في أن إسرائيل ستترك سورية في حالها حتى تقوّي نفسها وتصبح قادرةً على مواجهة الاحتلال؟ هل تعتمد خطّتهم فعلاً على أن إسرائيل ساذجة للدرجة التي ستسمح لهم بها بحشد قواهم حتى يواجهونها وهم في أفضل حالاتهم؟
والمفارقة الكبرى أن طرحا كهذا يُرّوج بعدما استطاعت الثورة السورية نفسها هزيمة نظام مدعوم من دولة إقليمية كبيرة مثل إيران، ودولة قوية مثل روسيا، تملك ثاني أقوى جيش بعد الولايات المتحدة. فلماذا هذا التدنّي المفاجئ في تقدير الذات؟... الحقيقة أن هذه الدعوات ليست انعزاليةً بالمطلق، بل مجرّد حجّة لتحويل سورية إلى دولة تابعة لمحاور ومشروعات إقليمية بدأت تتشكّل أخيراً، ولذلك يُرتدى قناع الانعزالية والخصوصية لإقناع السوريين بهما، بينما هي في الحقيقة دعوة إلى التبعية والاستسلام.