بردى فصيحٌ لكنَّ النيل بليغ
(نجيب بلخوجة)
مضى أسبوعان على سخرية الممثل السوري سلّوم حداد من عجز الممثّلين المصريين عن لفظ الجيم المعطّشة في المسلسلات التاريخية، والمصريون يرتّلون العبارات ويشدّونها، ويُخشى على مصر من عطش الحروف كلّها حاشا الجيم، بعد استكمال سدّ النهضة الإثيوبي، في الحياة وليس في فنّ التمثيل، وقد آنستُ ناراً من جانب السور الأيمن، فوجدتُ أنّ المصرية أبلغ ألفاظاً، وأشد شواظاً، من اللهجة الشامية، وسأضرب أمثلة: إن أهل مصر (ولله الحمد) يقيمون اسم عمرو، وليس كما يفعل السوريون الذين يلفظون واوه (إن سمعت عابد فهد في دور الحجّاج ستولْولُ!)، ولعلّ مردّ ذلك أنّ فاتح مصر وأبا عذرتها هو عمرو بن العاص. مع أنَّ أهل الشام فصحاء، لكن غزتهم العجمة، واعتورهم اللحن واغتربوا أيضاً.
يزعم كاتب هذا المقال أنّ الأسماء المصرية والأفعال المصرية أبلغ من الشامية. خذ مثلاً اسم الضربة أو الطعنة أو أثر السلاح... في الشام هو "جرح"، أمّا في مصر فهو "عور". يقول المصري: "عوّرني فلان"، والعور أبلغ وأشمل من الجرح؛ فهو ينصرف إلى العورة، والعار، والعين وأذاها. ويقول المصري في الطلب والحاجة: "أنا عايز إبرة وفتلة"، أمّا الشامي فيقول: "بدي"، أو "بريد"، والعوز أبلغ من الحاجة. فالعوز في لسان العرب: ضيق الشيء. والإعواز: الفقر. وعوز الشيء عوزاً إذا لم يوجد. في فيلم "اللعب مع الكبار" يقول قائل: "الحقي يا هناء، حسن بهلول اتقبض عليه، يمكن تِشِدّي له محامي؟"، أما الشامي إن قالها، فيقول: "وكّلي له محامي" فما أحسن فعل "تِشِدّي" له، وأجمله! وما زلت أختار الألفاظ، وليس العبارات. الشامي يقول عن السقيم: "مريض"، وهو نقيض الصحّة، أمّا المصري فيقول: "الواد عيّان اسقوه"، والعيا أبلغ من المرض؛ فهي تجمع العي، والعوان، والإعياء، والتعب، إلى المرض. و"العربية" هي المركبة المعروفة في مصر، وهي من "العَربة"، أمّا في سورية فهي: "سيّارة"، وهي محدثة، والعربة أقدم وأفصح وأبلغ. كنت أعجمياً في سورية، ولي "درّاجة شيوخ" (وهي دراجة نساء، لكن النساء لا يركبن الدراجات عندنا) لها جيب وفرجة، وكانت نادرة عندنا، إلى أن صار لدي "عربية" في ألمانيا، فتعرّبتُ بسيارة هونداي، فالفصاحة المعاصرة هي فصاحة السرعة.
خذ فعل "سيبوه". الشامي يقول: "اتركوه"، و"سيبه" أبلغ وأخف نطقاً من اتركه. الشامي يقول عن صغار النقد وصيصانه: "فكّة"، أمّا في سورية فهي: فراطة أو صرافة. المصري يقول بدلاً من "انظر": "بُصّ"، أمّا الشامي فيقول: "طَلِّع". و"بُصّ" أسرع وأبلغ، وهي من البرق، واللمع، والبصيص. أمّا اللبناني فيقول: اقشع (يا لهوي!). الشامي يقول: "خفت"، أمّا المصري فيقول: "اتخضّيت"، وهو فعل يجمع الخوف إلى الخضّ، وللخضّ زبدة ليست للخوف، وقد يكون لها "جُبن"، وقريشة (!). الشامي يقول: "مشتاق"، والمصري: "واحشني"، والوحشة أعمّ وأشمل: "أرض وحْشة"، بالتسكين، أي قفر. وأوحش المكان من أهله وتوحّش يعني خلا وذهب عنه الناس، والوحشة هي الخلوة والهمّ.
الشامي يقول: "رغيف خبز"، أمّا المصري فيقول: "رغيف عيش"، ومنه شعار الثورة المصرية المغدورة "عيش، حرية، عدالة اجتماعية". يقول المصري: "عِشّة"، أمّا الشامي فيقول: "كوخ"، والكُشك أصله "كوخ". الشامي يقول: "ادخل"، أمّا المصري فيقول: "خشّ" (برجلك اليمنى)، والخشُّ أسرع. الشامي يقول عن فاقد العقل: "مجنون"، أمّا المصري فيقول: "عبيط"، وللعَبط معانٍ كثيرة؛ الكذب الصراح من غير عذر، واللحم العبيط الطري غير النضيج، وفي الحديث: "مُري بنيك لا يعبطوا ضروع الغنم"، ومن معانيه الريبة. وأخذ العبط معنى الجنون والاستغفال في المصرية، فلكل لفظ عربي قطار من الدلالات والمعاني.
وأرى أنّ المصري خاض مِحناً، ورأى فراعنة وطغاة لم يرهم السوري سوى في أيام الأسدين السوداء، وبمصر عجائب وغرائب مثل الأهرام وأبي الهول والسيسي، فأخذ من المعاني أبعدها وأبلغها وأشدّها، وقد سمعت كلمة أحمد أبو الغيط في الدوحة قبل أيام، فتذكّرت بلاغة طالبة هاني رمزي في مسلسل "مبروك جالك قلق"، وقلت الجملة نفسها عند عقد مؤتمر القمة العربية الإسلامية أخيراً في الدوحة: "أهلاً بالحب وموعده/ ورحيل الصبر ومرقده".