ترامب الطارئ إذ يعمل على تفكيك الهيمنة الأميركية

05 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:46 (توقيت القدس)
+ الخط -

لا تنحدر الدول العظمى وتتنحّى عن القمة على خلفية عظم التحديات الداخلية والخارجية التي قد تواجهها، اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم سياسية أم جيوسياسية، فحسب، بل قد تكون نتيجة مترتّبة على سلوك صنّاع القرار فيها، أفراداً كانوا أم مؤسسات حكم. ينطبق هذا المثال في الواقع المعاصر على الولايات المتحدة، القوة العالمية المهيمنة والأعظم، والتي تترنّح مكانتها دولياً في ظل رئاسة دونالد ترامب، رغم كل مظاهر القوة التي تبدو عليها وإمكانات القهر التي تملكها. يعبث ترامب من دون رادع ولا حسيب، تقريباً، بالمنظومتين القيمية والدستورية الأميركيتين، وهو يحول الولايات المتحدة التي تعد نفسها أعرق ديمقراطية عالمياً إلى نظام حكم استبدادي، خصوصاً مع تواطؤ الكونغرس بأغلبيته الجمهورية معه، وما يبدو من استسلام المحكمة العليا، بأغلبيتها المحافظة، لبعض نزواته ومخالفته الدستور والقوانين الفيدرالية. ذاك على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي، فلا تفرّق سياسات ترامب الهوجاء بين "حليف" و"خصم"، كما في معارك الرسوم الجمركية، بذريعة شعار "أميركا أولاً". غير أن المفارقة، أن شعار "أميركا أولاً" يجيّر أحياناً لـ"ترامب أولاً"، ولو ترتّبت على ذلك خسائر جيوسياسية حساسة للولايات المتحدة. هذه ليست مبالغة، بل هي حقيقة تتبدّى من خلال تصعيده معركة الرسوم الجمركية مع الهند.

على مدى أربعة أيام (31 أغسطس / آب – 3 سبتمبر / أيلول)، شهدت الصين حدثين عالميين، ضمن سيرورة المنافسة الصينية – الأميركية، عدهما استراتيجيون أميركيون نتيجة مباشرة لأخطاء استراتيجية ارتكبها ترامب وإدارته. الأول، قمة دول منظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تيانجين الصينية. ورغم أن هذه المنظمة تشكّلت عام 2001 وعقدت قمماً واجتماعات كثيرة، فإن الجديد هذه المرّة حضور رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لها. كانت الهند انضمّت إلى المنظمة عام 2017. لكن علاقات نيودلهي وبكين كانت متوترة على خلفية نزاعات حدودية، ولم يزُر رئيس وزراء هندي الصين منذ 2018. وازدادت العلاقات توتّراً، عام 2020، على خلفية اشتباكات دموية بين جيشي البلدين في أعالي جبال الهيمالايا، دعمت فيها واشنطن نيودلهي. وجرّاء التنافس الهندي – الصيني انضمّت الهند إلى الحوار الأمني الرباعي عام 2007، والذي ضم الولايات المتحدة، الهند، أستراليا، واليابان، غير أن هذا المنتدى تعطّل عام 2008 جرّاء انسحاب أستراليا منه، قبل أن يعاد إطلاقه في 2017 في سبيل احتواء الصين الصاعدة.

يعبث ترامب من دون رادع ولا حسيب، تقريباً، بالمنظومتين القيمية والدستورية الأميركيتين، وهو يحول الولايات المتحدة التي تعد نفسها أعرق ديمقراطية عالمياً إلى نظام حكم استبدادي

على مدى عقدين، تقريباً، عملت واشنطن على توطيد علاقاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية مع نيودلهي، على اعتبار أنها قوة موازنة وندّة للصين. وكان ينظر إلى علاقة ترامب، خلال فترة رئاسته الأولى (2017 – 2021) أنها الأكثر تميّزاً مع مودي. إلا أن نسبة ألـ50% من الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الهند، وهي أعلى نسبة تفرضها واشنطن على أي دولة أخرى، خصماً أم حليفة، وتّرت أجواء التحالف بين البلدين. المفارقة أن ليست كل النسبة هي جرّاء خلافات اقتصادية وتردّد نيودلهي في توقيع اتفاقية جمركية جديدة مع واشنطن، وهو وما تعدّه إدارة ترامب استغلالاً للولايات المتحدة من الحلفاء، فتلك كانت عقوبتها 25% فقط. أما الـ25% الأخرى فمتعلقة بكبرياء ترامب، أو قل جنونه. هذه حقيقة وليست مزحة.

حسب ترامب، كانت نسبة ألـ25% الثانية التي فرضها على الهند، مطلع الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، نتيجة رفض الأخيرة التوقف عن استيراد النفط الروسي، والذي يزعم ترامب أنه يدعم اقتصاد روسيا، وبالتالي، يقلّل من حماسها لوقف الحرب في أوكرانيا. غير أن الإعلام الأميركي أورد سبباً آخر لمعاقبة ترامب الهند، وهو شخصي لا علاقة له بالحسابات الاستراتيجية والجيوسياسية الأميركية. استناداً إلى تقارير متواترة في الإعلام الأميركي، يعود غضب ترامب من مودي إلى مكالمة هاتفية جرت بينهما في يونيو / حزيران الماضي على خلفية الاشتباكات العسكرية بين الهند وباكستان. حينها، زعم ترامب أن وساطته هي من أوقفت الحرب، وهو ما رفضته نيودلهي مباشرة، على أساس أنها تعتبر مسألة كشمير داخلية، ولا تقبل أي وساطات أجنبية حتى لا تُدَوَّلَ قضيتها. لكن ترامب لم يأبه لذلك، إذ طلب من مودي أن تدعم بلاده ترشيحه لجائزة نوبل للسلام، المهووس بها، ذلك أن إسلام أباد دعمت ترشيحه لها، وتجاهل مودي الطلب، وهو ما أثار غضبه، وانتهى الأمر بانتكاسة في مسار التقارب الأميركي – الهندي الاستراتيجي. كان ردُّ مودي في قمة دول منظمة شنغهاي للتعاون، أن لدى الهند خيارات أخرى، إذ ظهر وهو يقف بحماس وانبساط إلى جانب الرئيسين، الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين.

ترامب مشغول بتفكيك مصادر القوة الأميركية وإيهانها، كالدستور، والديمقراطية، والحريات المدنية والأكاديمية، بل وكذلك مؤسّسات الدولة

الحدث الثاني الذي شهدته الصين، المحمّل بالدلالات الرمزية على المنافسة الأميركية – الصينية، وبوادر تشكّل نظام دولي جديد، كان يوم الأربعاء الماضي (3 سبتمبر/ أيلول). نظّمت الصين استعراضاً عسكرياً ضخماً في بكين لإحياء الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية، حضره قادة 26 دولة وممثلوها، غير أن أهمهم الرؤساء، الروسي بوتين، والكوري الشمالي كيم جونغ أون، والإيراني مسعود بزشكيان. ومعلوم أن روسيا وكوريا الشمالية وإيران على رأس قائمة العقوبات الأميركية. اللافت في الاستعراض ليس فقط الترسانة الضخمة من الأسلحة المتقدّمة (بما في ذلك صواريخ نووية بعيدة المدى) التي كشفت عنها الصين، بل اهتمام الرئيس الصيني بأن يقف جنباً إلى جنب مع كل من بوتين وأون، في رسالة تحدٍّ واضحة لواشنطن. ويخشى استراتيجيون أميركيون أن اجتماع الزعماء الثلاثة، بالإضافة إلى الرئيس الإيراني في مكان واحد، وفي هذه اللحظة التي تشهد فيها علاقات بلادهم توتّرات مع واشنطن (في حالة إيران شاركت الأخيرة في العدوان العسكري الإسرائيلي عليها في يونيو/ حزيران الماضي) قد يكون مقدّمة لتشكيل ما يعرف بـ"محور الاضطراب" المناهض للولايات المتحدة. بل حرص شي على أن يوجه رسائل إلى الولايات المتحدة، حيث قال في خطابه خلال الاستعراض العسكري إن على العالم "ألا يعود إلى قانون الغاب". كما كان قد قال في قمّة منظمة شنغهاي للتعاون إن العالم يعيش حالة من الفوضى، جرّاء مساعي بعض الدول (الولايات المتحدة) فرض قواعدها ومصالحها على الآخرين.

باختصار، شي مشغول بالعمل على إظهار قدرة بلاده على المزج بين القوتين، الصلبة والناعمة، للتدليل على أن الصين قوة تسعى إلى إعادة صياغة القواعد العالمية، ولا تخشى تحدّي قواعد الولايات المتحدة والغرب. في المقابل، ترامب مشغول بتفكيك مصادر القوة الأميركية وإيهانها، كالدستور، والديمقراطية، والحريات المدنية والأكاديمية، بل وكذلك مؤسّسات الدولة، في وقت يعمل بدأب غريب على تفكيك تحالفات واشنطن الدولية وإضعافها. هذا هو الفارق بين قيادة رجال الدولة الكبار، والطارئين الصغار، قدراً وقيمة وفهماً وخبرة. وإذا عجزت عن الولايات المتحدة عن تدارك خطر ترامب، فقد تجد نفسها تهوي قريباً عن رأس الهرم الدولي، وهو الدور الذي مارسته على مدى يربو على قرن بكل توحش وانتهازية واستغلال واستكبار وإجرام.