"ترنْد"

12 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:57 (توقيت القدس)

(Getty)

+ الخط -

أيّ تصريحٍ عابرٍ أو زلّة لسان أو جملة مستقطعة من سياقها أو صورة أو "سكرين شوت" يمكنه أن يتحوّل في زمن "السوشال ميديا" إلى "ترند" يشغل مرتادي هذا العالم الافتراضي، ويدخلهم في معارك هوياتية وهمية، بينما تبقى القضايا المحورية هامشيةً ومركونةً إلى جنب، تتداولها قلة قليلة من المتأثرين بها بشكل شخصي، أو ممن ما زالت القضايا الجوهرية تشكّل لديهم هاجساً يومياً بوصفها السبب الرئيس في كل التفاصيل الثانوية التي يمكن استخدامها لإلهاء الناس وإبعادهم عن الجوهر الحقيقي لهزائمهم.

يحوّل "الترند" في العالم الافتراضي أي وهمٍ إلى حقيقة، ويصبح وسم ما يبدأه شخصٌ ما في مكانٍ ما أكثر أهمية بكثير من أي نقاش جدّي في قضية جدّية ومهمّة. يصبح رأيٌ، متعلق بأي موضوع، قاله فنّانٌ في حوار طويل، أكثر أهمية من سؤال الفن نفسه وعلاقته بالسياسة والمجتمع والاقتصاد، ويصبح معه شتم الفنان أو صاحب الرأي معيار الاكتراث بالفن، بدلاً من طرح نقاش الفكرة المتداولة لاجتراح أفكار تغني الموضوع الرئيسي، أو تساعد في عملية تطوير مهنة الفن (أكثر الموضوعات جذباً لرواد السوشال ميديا الموضوعات المتعلقة بالفن والفنانين).

ولكن النقاش الجدّي والفاعل في الفن أو أي موضوع قيّم آخر يُطرَح على السوشال ميديا لا يجمع عدداً كبيراً من المتفاعلين، لهذا تكثر الحسابات التي تشعل هذا العالم بالتقاطات ركيكة من هنا وهناك وتحولها إلى نقطة استقطاب تجمع حولها عدداً كبيراً جداً من المتفاعلين السلبيين الذين لا يكترثون لجوهر القضية، لكنهم ينفعلون نتيجة استفزاز واحدة من غرائزهم غير المنضبطة التي تتصاعد طوال فترة الترند، ثم بعد قليل تعود إلى وضعها الطبيعي، بانتظار تصريح حدث أو تصريح جديد لا قيمة له ولا فائدة سوى جمع العدد الأكبر من مرتادي العالم الأزرق، في سبيل تحقيق أرباح مادّية باتت هي الهدف الأول لأي "ترند" في عالم "السوشال ميديا" الواسع.

ثمّة معارك تحدُث في هذا العالم، يجب شكر السماء معها أنها افتراضية، ففائض الكراهية والاستقطاب الذي يظهر فيها يجعلها قاتلةً فعلاً لو أنها واقعية، ذلك أن مقدار الغضب الذي يظهر في الاتهامات المتبادلة في هذه المعارك يمكنه أن يتحوّل بسهولة إلى سلاح قاتل، لو حصل على أرض الواقع. ولكن من قال إن الكلام ليس قاتلاً أحياناً؟ تتحوّل الكراهية التي تظهر في المعارك الافتراضية بسهولة إلى معارك لاستعراض القوة: قوة الانتماء أو قوة الهوية أو قوة الجنس أو قوة السلطة، إلخ. ومع هذه القوة، يظهر شعور التفاخر بالتفوق، وهو ما يتحوّل بسهولة إلى استعراض شوفيني قومي أو ديني أو مذهبي أو طبقي. ومهما قلنا إن هذا مجرد تفاخر افتراضي، وإن ما يحدُث على أرض الواقع مختلف، إلا أن الأحداث أثبتت مدى تأثير عالم الافتراض في الوعي الجمعي لمستخدمي هذا العالم.

ثمّة نوع من التأثير الأدائي العقلي تُستخدَم فيه مهارات وإيحاءات نفسية يُوجَّه من خلالها الشخص المقابل نحو استنتاجات معينة، يسمّى هذا النوع من التأثير "mentalism"؛ وتلعب وسوم وترندات وسائل التواصل الاجتماعي حالياً دور "mentalist" في العلاقة مع مستخدمي هذه الوسائل، يمكنها بسهولة أن توحي لهم أن هذه المعركة أو تلك ليست افتراضية، وأن هذا الشخص أو المجموعة أو الطائفة أو الشعب مستهدفٌ فعلاً من كارهين له. يتراكم هذا التأثير في اللاوعي الجمعي لدى المجموعة البشرية المقصودة، وتبدأ التفكير في هذا العدو بوصفه عدوّاً فعليّاً. قد لا يظهر هذا التأثير مباشرة في الواقع، لكن تراكمه سيجعله ينفجر بعد حين. يمكن بناءً على هذا تفسير الحروب الأهلية الحديثة التي تحصل نتيجة مواصلة التحريض الطائفي أو القومي عبر وسائل التواصل. يمكن أيضاً تفسير الحملات ضد اللاجئين في البلاد ذات الواقع المضطرب والهش، فعادة ما يتركّز تأثير حملات "السوشال ميديا" في المجتمعات الهشّة التي تعاني الاستبداد والفقر والحروب والأزمات المعيشية والفشل السياسي والاقتصادي، أما المجتمعات القوية فتبقى شعوبها في مأمن معين من هذا التأثير، بسبب عراقة القوانين الديمقراطية وحقوق الإنسان فيها.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.