ثلاث جوائز فورية قدّمتها محكمة الجنايات الدولية

26 نوفمبر 2024

متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين قبالة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (Getty18/10/2023)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

أخيراً، وبعد ترقّب وانتظار، وتأخير طال ستّة أشهر غصّت بالضغوط والمراوغات والترهيب، فعلتها محكمة الجنايات الدولية، حين شرب قضاتها حليب السباع جرعةً واحدةً، ذبحوا البقرة الحمراء، وعبروا عتبة الممنوعات، وذلك عندما أصدروا بالإجماع حكماً باتّاً لا رجعة عنه بتوقيف بنيامين نتنياهو ووزير حربه المُقال يوآف غالانت، وجلبهما إلى قفص العدالة الدولية في لاهاي بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، في مشهدٍ كان من المستحيلات حتى الأمس القريب.
بصدور هذا الحكم الذي دوّى دويَّ صفّارات الإنذار في حيفا وعكا والجليل كلّه، وسُمع رجعه في مشارق الأرض ومغاربها بوضوح تام، أنجزت المحكمة على الفور ثلاثةَ استحقاقات، بدت بعض الوقت عصيّة المنال، كان كلٌّ منها بمثابة جائزة ثمينة، أو قل ثمرة كبيرة طيّبة المذاق، أسقطتها المحكمة الرفيعة في السلّة الفلسطينية الصغيرة دفعة واحدة، فيما فاء عطرها الأخّاذ في الجوار، ولولا الحذر، المستحبّ بطبيعة الحال، لكان في وسع المرء المتفائل من دون إفراط، القول إن هذا الحُكم يُعتبَر في حدّ ذاته نقطةَ تحوّل فارقةٍ في مسار الصراع.
ذلك أن هذا الحُكم الذي له ما بعده من تداعيات تُرى بعين البصيرة منذ الآن، لا يخصّ نتنياهو وغالانت فحسب، وإنما يخاطب كيان الاحتلال بمكوّناته كلّها، ويطاول الجيش والمجتمع والدولة من دون استثناء، بدليل هذا الهذيان الجارف من جانب سائر أطراف الطيف الصهيوني ضدّ محكمة الجنايات وقضاتها والمدّعي العام، إذ لم تبقَ مفردةٌ في قاموس السبّ والشتم العبري إلا استخدمها المتحدّثون من الأحزاب ومنابر الإعلام كلّها، على أرضية ذعر جماعي جامع مانع، من مغبّة الاستدعاءات اللاحقة، ومن شتى المضاعفات الناجمة عن هذا الزلزال، وفي مقدمها النبذ والعزلة الدولية، وتوقيفات الشرطة في المطارات.
بالعودة إلى الجوائز الفورية الثلاث، التي هبطت في السلّة الفلسطينية فور صدور هذا الحكم، يمكن القول إن أولاها، وربّما أثمنها، كامنةٌ في حقيقة أن هذه السابقة القضائية غير المسبوقة مثّلت، في حدّ ذاتها، بدايةَ النهاية لزمن الإفلات من العقاب، الذي ظلّت تتمتّع به دولة الاحتلال، وشاخصةً نقطةً كبيرةً في آخر سطر حصانة الدولة المارقة ضدّ المساءلة والقصاص، وواعدةً بإنزال إسرائيل تحت قوس القانون الدولي، للمرّة الأولى منذ 76 عاماً. وهذا هو منبع حالة الجنون الطامّة، التي استبدّت بالقوم وأخرجتهم عن الطور.
تجلّت الجائزة الثمينة الثانية من خلال إدخال طرف ثالث، للمرّة الأولى أيضاً، في مجرى هذا الصراع الذي بقيت فيه دولة الاستيطان ترفض إشراك أيّ طرف دولي، أو مساهمة أيّ جهة كانت في لعبة المفاوضات، التي ظلّت تجري عقوداً، وتتعثّر على طول الخطّ من دون شهادة شاهد محايد على تفلّت حكومات الاحتلال المتعاقبة من كلّ تعهّد والتزام، وتهرّبها المنهجي من أيّ استحقاق أو اتفاق، الأمر الذي يُشكّل والحالة هذه، أوّل خرق من نوعه في الجدار السميك، ويشق مساراً كان مُحكمَ الإغلاق، ويقدّم فرصةً يمكن البناء عليها لتوظيف هذا الخرق في إطار المقاومة الفلسطينية متعدّدة الأشكال والصعد، بما فيها صعيد القضاء.
ثالثة هذه الجوائز الفورية القيّمة، هي متّصلة بردّ الاعتبار فوراً إلى هيبة القضاء الدولي، الذي وقف طوال نحو سنة وأكثر وقفةَ الولد اليتيم أمام مأدبة اللئام، وكاد يسقط في امتحان البقاء تحت وطأة التهميش والتعطيل والحصار، كما أعاد هذا الحُكم تعويم المحكمة الجزائية، وربّما "العدل الدولية" من الغرق في بحر الاستعصاءات السياسية، والحؤول دون استمرار عملية تقويض دور المؤسّسات الحقوقية، وتحجيم سائر منظّمات القانون الدولي، فضلاً عن شلّ فاعلية مجلس الأمن، ومختلف وكالات الأمم المتحدة.
قد لا يُجلَب نتنياهو إلى لاهاي، وقد تحميه واشنطن من الوقفة في القفص، إلّا أنه في المحصلة الأولية لهذا الحكم، تبدّدت صورة دولة الناجين من المحرقة النازية، وسقطت الرواية الصهيونية عن الدولة الديمقراطية الوحيدة، وعن الجيش الأكثر أخلاقاً في العالم، ناهيك عن المظلومية واحتكار دور الضحية الأبدية، حيث حلّت الآن محلّ هذه المزاعم صورةُ دولةٍ مارقةٍ متوحّشةٍ منبوذةٍ، يقف على رأسها مجرم حرب كان يسعى إلى مضاهاة مكانته في التاريخ مع مكانة ونستون تشرتشل، فإذا به يسقط في الحضيض، إلى جانب عمر البشير ومن لفّ لفّه.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي