جولة ترامب وسؤال المليار
بينما بدأت تتسرّب قبل أيام ملامح الخطّة الأميركية تجاه غزّة، التي يُراد منها تقديم لفتة إيجابية كبيرة من الرئيس دونالد ترامب، وقبل وصوله إلى منطقة الخليج العربي، تترافق هذه الأنباء المتفائلة مع مجازر تقشعرّ لها الأبدان، تواظب حكومة بنيامين نتنياهو يومياً على ارتكابها بحقّ المدنيين المنكوبين في قطاع غزّة. الأقرب إلى العدل والعقل أن يطلب البيت الأبيض وقفاً فورياً لإطلاق النار، بالتزامن مع تسريب جوانب من الخطّة، فحياة البشر ليست تفصيلاً ثانوياً، أو مسألةً جانبيةً، والفتك كلّ يوم بالمدنيين الأبرياء ليس حقّاً مُكتسباً لنتنياهو وقادة جيشه، بل هي جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، ومن أوجب واجبات أميركا والدول الكبرى، وقف تلك الفظائع.
وسبق للرئيس ترامب أن ضغط، عشيّة تسلّمه السلطة، لإنجاز اتفاق وقف إطلاق نار، ممّا احتسب بدايةً جيّدةً للرئيس العائد إلى مكتبه الأثير، غير أن نتنياهو لم يلبث أن تمرّد على الاتفاق بعد سريان مرحلته الأولى، وتخلّى عن التزامه بالاتفاق منذ 18 مارس/ آذار الماضي، ومنذ ذلك التاريخ سقط المئات من الأطفال والنساء ضحيةَ القذائف المسعورة والأوامر الإجرامية، وترافق ذلك مع إغلاق المعابر وتعريض المحاصَرين لخطر المجاعة، وقد مات بالفعل عشرات من الأطفال بسبب الجوع، ومن العار التلكؤ في وقف هذه الحرب المقيتة، إذ يحرص نتنياهو وفريقه على ألّا يمرّ يوم من دون سقوط مزيد من الضحايا، فيما يتفرّج قادة العالم على هذه الكارثة، ويزعمون بصيغ مختلفة إنهم لا يملكون قدرة على وقفها.
من واجب الولايات المتحدة بالذات التحرّك السريع والفعّال لوقف هذا المسلسل الدموي، أولاً لما تربطها بدولة الاحتلال من روابط وثيقة، وثانياً لأنّها قدّمت دعماً تسليحياً ومالياً هائلَين للطرف الذي يشنّ هذه الحرب، ومنعت حتى إبداء التعاطف مع الضحايا ومع ذويهم، كما منعت جمهوراً واسعاً في أميركا من الوقوف مع العدالة، وهو ما فعلته دول أوروبية كبيرة لطالما تشدّقت على مدى عقود بحقوق الإنسان وبحرّية التعبير، ما يجعل التحرّك الأميركي في هذه الآونة من قبيل التكفير عن ذنوب سياسية، والتعويض المعنوي الأوّلي للضحايا وذويهم، ممّن فقدوا أحبّتهم وبيوتهم وكلّ ما يملكون من موارد الحياة، وكثير من هؤلاء جرحى ومرضى ويفتقدون إلى لقمة العيش وكوب الماء. آن لهذه السادية البدائية أن تتوقّف من أجل أن يبقى عالمنا مكاناً صالحاً للعيش، ومن أجل الاحتفاظ بالحدّ الأدنى من الثقة بقادة العالم ومسؤوليه، ومن أجل صون الكرامة البشرية واحترام الحقّ المقدّس بالحياة.
تتحدّث خطّة ترامب عن لجنة من تكنوقراط فلسطينيين تدير شؤون القطاع بإشراف أميركي
إذاً، سوف يحمل الرئيس ترامب في جولته على السعودية وقطر والإمارات (ألمح إلى اعتزامه زيارة تركيا، لكن ليس من المعلوم إن كانت هناك محطّة له في أنقرة خلال جولته هذه) خطّةً لإنهاء الحرب، وإعادة الحياة إلى القطاع بمدنه الأربع، التي دمّرتها حربُ نتنياهو. تتحدّث الخطّة أساساً عن لجنة من تكنوقراط فلسطينيين تدير شؤون القطاع بإشراف أميركي. من الواجب مناقشة هذه الخطّة مع مضيفيه في الخليج العربي، من دون أن ترافقَ هذه المناقشة مجازرُ إضافيةٌ في القطاع. بوسع ترامب فرض وقف إطلاق نار إنساني لشهر مثلاً من أجل تدارس هذه الخطّة في أجواء هادئة، ومن أجل بثّ رسالة مفادها أن حياة البشر مهمّة. يُفهم من هذه الخطّة أنها تفتح الباب وفق رؤية أصحابها لوقف الحرب وعودة الأسرى (من الجانبين؟) والبدء بإعمار القطاع، وتنحية حركة حماس من المشهد. لكن ما المنطق في إقصاء السلطة الفلسطينية المعترف بها على أوسع نطاق دولي، وكيف يمكن شقّ الطريق نحو تسوية كبيرة وشاملة مع إقصاء طرف أساس في الصراع وفي التسوية المنشودة؟... عند هذه النقطة، يتعيّن الالتفات إلى الخطّة العربية التي تبنّتها قمّة طارئة في القاهرة (مارس/ آذار الماضي)، كما تبنّتها منظّمة التعاون الإسلامي، ولقيت قبولاً دولياً واسعاً. فالخطّة تمنح إشرافاً غير مباشر للسلطة الفلسطينية على اللجنة، بمعنى القيام بدور مظلّة سياسية. وتدعو الخطّة إلى قوات حفظ سلام دولية في القطاع (ثمّ في الضفة الغربية)، ومن الطبيعي أن يكون هناك وجود لقوات أميركية، ولقوات عربية مصرية وأردنية وخليجية. ومغزى ذلك أن الخطّة العربية لم تقفز عن دور أميركي منتظر في الترتيبات، وعلاوة على قوات أميركية، فإن أحداً ليس بوسعه تجاهل التأثير السياسي لواشنطن في تنظيم الأمور (اليوم وغداً).
قبل أن تسعى إدارة ترامب إلى التوفيق بين خطّتها والخطّة العربية، يجدر إبداء اليقظة أولاً تجاه السلبية الإسرائيلية المتوقّعة
وبمقاربة عملية، فإنه يتعيّن بذل جهد منسّق ونزيه للتجسير بين الخطّتَين العربية والأميركية من أجل التوصّل إلى صيغة مشتركة، مع إلزام الأطراف المعنية (الإسرائيلية والفلسطينية) بتنفيذها، وبضمانات عربية وإقليمية (تركيا) ودولية (أوروبية)، والانطلاق من ذلك بعد نجاح تجربة غزّة إلى معالجة مسألة الاحتلال والحقوق الفلسطينية الثابتة، ضمن تسوية كبيرة تتطلّع إليها سائر دول العالم في الشرق والغرب، وبما ينقذ الشرق الأوسط من فوضى مدمّرة تُسفَك فيها الدماء، وتسُتنزف فيها الطاقات والموارد، وتُنصب جدران عالية من الكراهية والضغائن بين اتباع الديانات التوحيدية الثلاث.
ويجب المصارحة ابتداءً، أن حكومة تلّ أبيب لن تدّخر جهداً من أجل إفشال خطّة ترامب، تماماً كما أفشلت اتفاق وقف إطلاق النار في يناير/ كانون الثاني الماضي، وسوف تضع جملة شروط ومطالب تتمحور حول حقوق ومصالح مزعومة في قطاع غزّة، تفوق حقوق أبناء القطاع أنفسهم، وتفوق حقوق مصر مثلاً المتاخمة للقطاع، وسبق أن تمتّعت بوجود إداري وسياسي هناك، فيما يَمنح أبناءُ القطاع مصرَ وشعبها ومؤسّساتها ثقةً كبيرة. هكذا، وقبل أن تسعى إدارة ترمب إلى التوفيق بين خطّتها والخطّة العربية، ونيل قبول عربي ودولي بهذه الجهود، فإنه يجدر إبداء اليقظة أولاً تجاه السلبية الإسرائيلية المتوقّعة، التي تتأسّس على المطامع والأنانية المطلقة، وعلى مفاهيم استعمارية تقليدية لا مكان لها في القرن الحادي والعشرين. وانطلاقاً من موقف سياسي براغماتي تحكُمه الظروف المأساوية القاهرة، وواقع التغاضي الدولي عن كارثة الإبادة، وضعف الموقف العربي التدخّلي بهذا الشأن، ومن دون الوقوع في تفاؤلية مفرطة، أو اللجوء إلى واقعية بغير ضوابط أو محدّدات، فإن سؤال المليار دولار (هنا والآن)، هو هذا السؤال المتشعّب: هل يفعلها ترامب هذه المرّة؟ هل يتمسّك بقوة وثبات بخيارٍ يشقّ الطريق نحو إحلال السلام في غزّة وفي الأرض المقدّسة وفي الشرق الأوسط؟ وهل ستأخذ العدالة النسبية مجراها على يديه، بما يمنحه جائزة نوبل للسلام؟... مع الإشارة إلى أن السؤال مطروح على الرئيس الأميركي قبل أيّ أحد سواه.