حين يصبح "التحليل السياسي" أداة تضليل

19 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 03:39 (توقيت القدس)
+ الخط -

ثمَّة خطٌّ رفيع يفصل بين الأمل والوَهْم. الأمل شعورٌ ينبثق من إمكانية واقعية للتحقق. إنه اعتقاد عقلاني قائم على حسابات منطقية وحقيقية، ومن ثمَّ فإنه، إن أحسن تأطيره وتوظيفه، قد يكون دافعاً للجهد والعمل لتحويل الأفكار والطموحات إلى خطوات عملية وواقع معاش. في المقابل، يقوم الوَهْمَ على اعتقاد راسخ بشيءٍ زائف أو خيالي، لا يعترف بالحجج العقلية والأدلة الواقعية، بل يقاومهما، إن لم يتجاهلهما في سبيل الهدف المنشود، وإنْ كان مستحيلاً. وتشير دراسات نفسية إلى أن الخط الفاصل بين الأمل والوَهْمِ قد لا يكون واضحاً لمن يقاوم الانجراف بين تياراتهما، ما يزيد من احتمالات الانزلاق فيه من سياق الأمل إلى سياق الوَهْم. وتتضاعف خطورة ضبابية الخط الفاصل بين الأمل والوَهْمِ حين يُساء استخدام الدين وتوظيف المُقَدَّسِ والتعسّف في تفسير النص أو إسقاطه على الواقع شديد التعقيد، لا لمحاولة إعادة تكييفه وتغيير ديناميكياته، بل لإنكاره أصلاً والتشبث بواقع افتراضي زائف غير قائم، وأمل مغشوش لا أفق له. ينطبق الأمر نفسه على بعض أدعياء "التفكير الاستراتيجي" الذين يهملون الواقع وتحدّياته الماثلة والعاصفة التي تكاد تقتلع أوتاد الخيام، إن لم تكن قد اقتلعتها فعلاً، في حين يغوصون هم في استشرافات مستقبلية قائمة على تخرّصات وتكهّنات لا دور لهم في تحقيقها، أو أنها قد تكون (الاستشرافات) داخلة في سياق "الأهداف غير المقصودة" أو "النتائج غير المتوقعة".

للأسف، لم تعد جدلية الأمل والوَهْمِ حبيسة الدراسات النفسية والاجتماعية، بل انتقلت عدواها إلى فضاء "التحليل السياسي"، أو ما يمكن وصفه بـ"التحليل السياسي الشُعْبَويّ". واللافت أن "التحليل السياسي الشُعْبَويّ" لم يعد محصوراً في قنوات تلفزيونية ركيكة المستوى أو قنوات شخصية على "يوتيوب"، بل تحولت إلى بضاعة مزدهرة ومطلوبة على قنوات تلفزيونية أو "يوتوبية" ذات حضور وثقل. إنه فنُّ خداع الجماهير تساوقاً مع أشواقها، من دون أن يراعي هؤلاء أن تسويق الوَهْمِ قد يقود إلى انهيار المعنويات، والكفر بالآمال والطموحات عندما تنهدم القصور التي بنيت في الهواء وتدرك الجماهير أنَّ ما كانت تطرب لسماعه لم يكن أكثر من سراب تواطأوا هم أنفسهم فيه مع "محلّلين سياسيين" رأوا في الشُعْبَوِيَةِ مصدر تَكَسُّبٍ وشهرة. إذن، "التفكير الوَهمي" قد يدغدغ المشاعر، لكنه لا يقيم بناءً على قواعد صلبة، ومن ثمَّ لا يلبث أن يَخِرَّ السقف على رؤوس الجميع. ولو كانت المعجزات الربانية هي القاعدة العامة لما عانى وجاهد وكافح رسول ونبي من قبل. ولو كانت التحليلات الاستراتيجية تسيح في فراغ الانبتات عن الواقع والانفصال عنه، ومن دون العناية بالحفاظ على الذات أولاً، حتى تتحقق "الأهداف غير المقصودة" أو "النتائج غير المتوقعة"، لما كان بقي من يعيش تلك التحولات أو من يمكنه الاستفادة منها، لأننا ببساطة سنكون قد انتهينا ابتداء.

قد يدغدغ "التفكير الوَهمي" المشاعر، لكنه لا يقيم بناءً على قواعد صلبة، ومن ثمَّ لا يلبث أن يَخِرَّ السقف على رؤوس الجميع

هل هذه دعوة إلى نشر اليأس؟ أبداً. ولا هي كذلك دعوة إلى إسباغ الشرعية على خطاب الهزيمة والمُنْهَزِمينَ، أو من انخرطوا في مسار الخيانة، عمداً أو نتيجة مترتبة. إنها دعوة إلى بعث الأمل عبر إدراك وفهم كنه الواقع المُعاش، وما فيه من تحدّيات وفرص وإمكان. هذا هو التحليل الموضوعي، الذي يسعى إلى صناعة الأمل وتجسيده، ولكن ليس من خلال تضليل الجماهير واللعب على مشاعرها، وليس من خلال بناء صروح من سراب، بل عبر الاعتراف بالواقع وتعقيداته، وتذليل التحدّيات واستغلال الفرص، وتمهيد الطريق أمام تحقيق الإمكان بآفاقه الواسعة. التفاؤل مطلوب، لكن الإفراط فيه ينقلب إلى ضده. وكما يقول بعض علماء النفس، قد يؤدّي التفاؤل وظيفة تحفيزية في الحاضر لخدمة أهداف مستقبلية، في حين أن التفاؤل المفرط قد يعمي الأفراد عن إدراك المخاطر الكامنة في أفعالهم الحالية، ما يؤدي إلى نتائج كان من الأفضل توقعها مسبقاً. ومن ثمَّ، فإن التفكير المتفائل شيء، والتفكير الوَهْميَّ شيء آخر. الأول محمود وإيجابيّ، والثاني مذموم وكارثيّ. وكما جاء في الأثر: "إن الرائد لا يَكْذِبُ أهله".

أتمنى أن تكون الرسالة الضمنية وصلت، حيث التصريح يحتاج سياقات أوسع وأعمق وأكثر تحوّطاً وحذراً حتى لا تكون دعوة إلى الانهزام أو الانكسار، أو يُساء فهمها على أنها كذلك.