خزانة الفساتين التي تُدعى حياة!
(جبر علوان)
تقول سيلفيا بلاث: لماذا لا تكون الحياة كخزانة فساتين؟ أُجرّب منها حياةً بعد أخرى، أرتدي كل احتمال، أتجول به قليلاً، ثم أقرّر أيها أكثر اتساعاً لروحي؟". ... تُغويني عبارة بلاث هذه مثلما تُغوي الفساتينُ امرأةً تقف أمام مرآة طويلة، متردّدة بين لونٍ وآخر، وبين قصّةٍ وأخرى، لا لأنها عابثة بالزينة، بل لأنها تفتش عن هيئةٍ تتسع لنبضها الداخلي.
ترى.. ما الذي يجعلنا نُصرّ على ارتداء حياة واحدة فقط، كأنها زيٌّ إلزامي لا خيار لنا في خلعه؟ ألسنا نولد محاطين بمئات الاحتمالات التي يمكن أن نجرّبها كما لو كانت فساتين في خزانة كونية ضخمة، كلٌّ منها يوحي بمصير مختلف ويقترح على أرواحنا رحلة مغايرة؟
حين أفكّر في هذا التشبيه، أرى أن مأساة المرء تبدأ حين يُحاصر داخل حياة واحدة ضيقة، كفساتين قديمة لم تعد تناسب المقاس الجديد. هناك مَن يواصل ارتداء حياته المتوارثة من العائلة أو المجتمع أو التقاليد، حتى لو كانت تخنقه عند العنق أو تعيق خطواته. وهناك مَن يمتلك جرأة بلاث في التساؤل؛ ماذا لو جرّبت حياة أخرى، أفسح، أخفّ، أو حتى أكثر غرابة؟
السؤال هنا ليس عن المتعة العابرة، بل عن اتساع الأفق وإمكان تجريب الذات في أكثر من صورة، لأن الهوية ليست حجراً جامداً، بل قماشة حيّة تستجيب للقصّ والخياطة.
لقد اعتدنا أن نُعامل الحياة بوصفها قدراً نهائياً، بينما يمكن النظر إليها بوصفها خزانة مكتظة بالمصائر. قد يفتح أحدنا درجاً صغيراً فيجد داخله حياة الكاتب، فيجرّب أن يعيش بالحبر واللغة، ثم يتركه ليرتدي حياة الرياضي المندفع بعضلاته، أو حياة السياسي المليء بالوعود والخيبات، أو حياة الأم التي تقيس الزمن بدقات قلب طفلها. في كل احتمال هناك نَفَس آخر، وهناك درس مكتوب على بطانة الفستان الذي ارتديناه قليلاً ثم علقناه ثانية.
غير أن السؤال الذي يزعجني دوماً؛ لماذا يُنظر إلى تبديل الحياة أنه خيانة للذات أو للآخرين؟ ألسنا نكبر بالاختلاف والتبدل؟ أليست الطبيعة ذاتها تعلّمنا هذا عبر فصولها المتعدّدة التي تتبدل بانتظام؟ الشجرة لا تخجل حين تتخفّف من أوراقها، ولا تعتذر حين تنبت براعم جديدة بلون آخر. فلماذا نخجل نحن من تبديل أحوالنا، من خلع حياتنا الأولى لنجرّب حياة ثانية أو ثالثة؟
ربما يكمن السر في الخوف. الخوف من أن نخطئ الاختيار، ومن أن نبدو مُسرفين في الرغبة أو متقلبين بلا جذور. لكن التجريب ليس نزوة، بل بحث صادق عن صيغة أرحب للوجود. وقد يعيش المرء عشرات الحيوات من دون أن يغادر مكانه؛ حياة القارئ وهو يفتتح كتابًا، حياة المسافر وهو يعبر مدينة غريبة، حياة العاشق وهو يستعير قلبًا آخر لبرهة، حياة الحالم وهو يضع رأسه على وسادة الليل. كلّها فساتين غير مرئية، لكنها تمنح الروح اتساعها.
أتأمل نفسي أحيانًا فأجدني أتنقل بالفعل بين حيوات عديدة. حين أكتب أرتدي حياةً لا تشبهني بالكامل، وحين أقرأ أرتدي حياة مؤلف آخر، وحين أنصت لألم أحدهم أرتدي ثوبه لبضع لحظات وأمشي بخطواته المثقلة. بهذا المعنى، ليست خزانة الفساتين التي تتحدث عنها بلاث استعارةً بعيدةً، بل حقيقة معيشة يوميًّا، شرط أن ننتبه إليها ولا نتعامل مع حياتنا بوصفها مسارًا واحدًا لا يتيح سوى وجهة إلزامية.
أعرف أن ثمّة من سيرفض هذه الفكرة، لأن فيها مساسًا بما اعتادوا تسميته “الاستقرار”، لكن أي استقرار ذاك الذي يتحقق بثمن الاختناق؟ أي حياة تلك التي تُختزل في وظيفة واحدة أو علاقة واحدة أو دور اجتماعي ضيق؟... أرواحنا أوسع بكثير من مقاساتنا اليومية، ولهذا ليست الاستعارة التي منحتنا إياها بلاث ترفًا أدبيًّا، بل دعوة إلى إعادة التفكير في معنى العيش ذاته.
قد لا نملك خزانة كاملة من الحيوات، لكننا نملك قدرة على التخيّل، والخيال بدوره حياة بديلة، حياة لا تحتاج إلى إذنٍ ولا موافقة من أحد. ربما هذا ما قصدته بلاث حين تساءلت: لماذا لا تكون الحياة كخزانة فساتين؟ سؤال بسيط، لكنه يهزّ يقيننا العتيق بأن علينا الاكتفاء بحياة واحدة. أليس أجمل ما في الروح أنها قابلة للتجريب، قابلة لإعادة التفصيل كلما ضاقت بها المقاسات القديمة؟
أفضّل أن أظل أجرّب، حتى لو بدوت متقلبة. فما الضير في أن يقال عن المرء إنه لم يرضَ بفساتينه الأولى؟ على الأقل يكون قد منح نفسه فرصة أن يتنفس في حياة ثانية، وربما ثالثة، حتى يجد تلك التي تتسع لروحه بلا حافَاتٍ قاسية ولا أكمام تخنق الحركة. الحياة ليست واحدة، ما دمنا نملك الجرأة على فتح الخزانة.