"دراما السُّلطة" التي لا تعجب السُّلطة

(عمران يونس)
كان المفكّر المصري، لويس عوض، أحد أبرز نقّاد تجربة جمال عبد الناصر وثورة يوليو 1952، وحين أراد توصيف الحالة الثقافية في ذلك العهد قال بعبارة مكثّفة، في البرنامج الإذاعي "شاهد على العصر" مع الإعلامي عمر بطيشة (عام 1986)، "في عهد الثورة مات الفكر وازدهر الإبداع".
كانت الدولة تضيق ذرعاً بالنقد، تجرّمُه، وتعاقب عليه بالمنع والفصل من العمل والسجن، لكنّها تحتفي بالإبداع، والمسرح، والسينما، والشعر، والرواية، والموسيقى والغناء، وإن شابَت ذلك كلّه مسحةٌ نقديةٌ "رمزيةٌ" (وآمنة). خذ مثلاً رواية ثروت أباظة "شيء من الخوف"، التي تعالج فترة عبد الناصر، وتُظهره بوصفه رئيس عصابةٍ، وتشبّه رجاله باللصوص والبلطجية. صدرت الرواية، ثم أنتجها الفنان (الضابط السابق)، صلاح ذو الفقار، فيلماً سينمائياً، فانزعج بعضُ الضّباط، ورفعوا الأمر إلى عبد الناصر، فطلب مشاهدة الفيلم، ثمّ أجازه، وعلّق: "لا يمكن أن يكون هذا الفيلم معبّراً عني أو عن رجالي، ولو كنّا كذلك فنحن نستحقّه". كان عبد الناصر يدرك قيمة الفن، وتأثيره محلياً، وقوّته الناعمة إقليمياً، ومن ثمّ يشجّعه، ويدعمه، ويتحمّل تبعاته، والأمثلة كثيرة على مرونته في التعامل بنفسه مع طبائع الفنانين ومزاجيّتهم وتمرّدهم، ناهيك عن تجاوز بعض أعمالهم خطوطاً لا يسمح بها لكاتب أو ناقد.
تشهد تجربتنا في مصر (وتجارب غيرنا) على إمكانية ازدهار الفنون في ظلّ بعض أشكال الحكم الاستبدادي بشروط، فإذا كان المستبدّ يحمل مشروعاً أيديولوجياً سياسياً واجتماعياً جادّاً، ويعتبر الفن أحد أوجهه وأدواته، فهو رافدٌ لازدهار الفن، من الوجهة التي تحمل المشروع. وإذا كان الاستبداد في حدود الحفاظ على السلطة، من دون التغوّل على بقية قطاعات المجتمع، كانت الفنون ردّة فعلٍ نقديّة لا تخلو من المتعة، ومن ثمّ تزدهر في بعض أوجهها "تنفيسةً" في موضوعاتها، وتسليةً بمعالجاتها، وتمرّداً بأساليبها، وهو ما شهدته مصر في حقبتَي السبعينيّات والثمانينيّات، التي أنتجت فنوناً رديئةً تشبهها، مسرحاً تجارياً وأفلامَ مقاولات، وفي الوقت نفسه، ظهر مسرح الطليعة، وسينما عاطف الطيّب ومحمّد خان، ودراما أسامة أنور عكاشة… إلخ.
أمّا إذا كان الاستبداد "فاشيّاً"، بلا عقل وبلا رؤية وبلا مشروع، تسيطر عليه الهواجس الأمنية، من دون غيرها، وتراهن فيه السلطة على بقائها على حساب ما سواها، ومن ثمّ على حساب المعنى، الذي يغيب تماماً ونهائياً، احترازاً أمنياً، ويغيب معه الباحثون عنه، من كتّاب ونقّاد ومفكّرين وفنانين ومبدعين، في شتى المجالات، فهنا لا تسعفنا عبارة لويس عوض في التعبير عن واقع الحال، فإذا غاب المعنى لا فكرَ ولا فنَّ ولا شيء سوى السلطة.
من هنا جاءت الدراما المصرية الحالية في أغلب ما تقدّمه رديئةً (الاستثناءات موجودة ومدهشة)، فالسلطة الحالية ترى أن ثورة يناير (2011) كانت نتاجاً لهوامش التعليم والتثقيف والحريات، ومن ثمّ أغلقت مشروع مكتبة الأسرة، الذي أتاح لآلاف الشباب قراءة عيون الفكر والأدب بأسعار زهيدة، كما أغلقت دائرة الوعي (على حدّ تعبير عبد الفتّاح السيسي) عبر تسميم أجواء الحوار في المنصّات الرقمية، وتوجيه كتائب إلكترونية لمحاصرة أيّ خطاب نقدي، بل امتدّ الأمر إلى مراجعة بعض الأعمال الفنية القديمة، مثل فيلم "الإرهاب والكباب" (1992)، الذي وجّه له السيسي اللوم (في خطاب رسمي!) لسخريته من بعض سياسات الدولة المصرية (في أرضها). وبدا واضحاً (ومرعباً) أن لا هامشَ حرّياتٍ بأيّ درجة ولا تهاونَ مع أيّ محاولة لتجاوز رواية الدولة عن نفسها وتاريخها وواقعها، وعن العالم من حولها. وحوّلت الدولة فنانين وكتّاب (وناشرين) عِبرةً لأنهم تورّطوا، من دون قصد، في تصريحاتٍ أو تلميحاتٍ يُشتمُّ منها رائحة النقد، ما أورث العاملين في هذه الحقول رعباً حقيقياً، دفع بعضَهم إلى مغادرة البلاد، وبعض آخر إلى اعتزالٍ مؤقّت، فيما بقي من لديهم الاستعداد لتقديم "شيءٍ ما" لا يتعارض مع "أمن الدولة"، فما المتوقّع من طَبّال بأيدٍ مرتعشةٍ سوى إيقاعٍ مقلوبٍ، لا يُرضي حتى مَن قَلَبَه؟