سلطة تشبه مثقّفيها

08 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 02:53 (توقيت القدس)
+ الخط -

خلال حرب الأعوام الماضية في سورية، التي تلت ثورتها الاستثنائية، بقي الفعل الثقافي جزءاً رئيساً من مقاومة الاستبداد والموت والخراب، فرغم حالة التيئيس التي اشتغل عليها كلّ من نظام الأسد ومموّلي الكتائب الجهادية، التي تحوّلت ثورةً مضادّةً قضتْ على أمل السوريين في الخلاص السلمي الديمقراطي، ورغم حالة اللاجدوى والعدمية التي كانت تظهر واضحةً لدى كثيرين من ثوار 2011، بقيت للثقافة السورية حدودٌ لم يستطع أحد المساس بها، بقي السوريون ينشطون ثقافياً في الداخل والخارج، وبقي صوت المثقّف السوري واضحاً وسط صوت الحرب العالي. كان للمثقّفين السوريين دورهم الرئيس في فضح ما يحدُث، لم يتوقّف الكتّاب والمفكّرون والمسرحيون والسينمائيون والموسيقيون والتشكيليون عن دعم الثورة، وتعرية الواقع السوري، وفضح زيف سردية النظام، وتسليط الضوء على سردية الضحايا. ظلّت الثقافة السورية خلال 14 سنة مضتْ مستقلّةً وحرّة، وهو ما جعلها محاربةً من النظام، ومن هيئات المعارضة السياسية التي دعمت الحرب والسلاح والأسلمة، ورهنت نفسها (ومعها مصير السوريين) لأجندات خارجية أوصلت سورية إلى حالة استعصاء ندفع ثمنها الباهظ هذه الأيام العصيبة والمصيرية في التاريخ السوري.
وباستثناء قلّةٍ، لم يظهر وقتها صوت مثقّف خارج عن الإجماع الوطني المطالب بدولة مواطنة ديمقراطية مدنية عادلة تعيد بناء المجتمع السوري المخرّب، وتبني سورية الحديثة الحرّة المستقلّة التي حلمنا بها. ولم يظهر من المثقّفين من يعتبر أن لا وقت للثقافة في زمن الحرب، كان الجميع مؤمنين أن إنقاذ سورية لن يحدث من دون تلازم مسارَي الفعلين الثقافي والسياسي، ومن دون دور الثقافة في تكريس حالة الوعي المجتمعي التي لا يمكن لأيّ تغيير إيجابي أن يحدث خارجها. قلّة من المثقّفين السوريين من خرجت عن هذا الخطّ الوطني طوال مدّة الثورة، رغم اختلاف الرؤى في طريقة التغيير وأدواتها. وهنا نتكلّم عن المثقّف المشتبك مع الهاجس الوطني المجتمعي التغييري، لا عن مثقّف السلطة الذي لا يرى في الوطن غير السلطة الحاكمة، ولا يرى في الشعب غير مجموعات من الرعايا التي عليها أن تبقى خاضعةً للسلطة الحاكمة، ومنطقه في هذا لا يتعدّى انتماءه لطائفة أو انتماءه لمصلحة شخصية أو خوف بنيوي.
غير أن ما حدث بعد 8 ديسمبر (2024)، واختفاء نظام الأسد، قلب كلَّ المعايير الصوابية الثقافية والأخلاقية في سورية. بدأت الفرحة الكبرى برحيل الأسد تتراجع شيئاً فشيئاً مع انكشاف النمط الذي تريده السلطة الانتقالية لحكم سورية: استئثار كامل بالحكم والسلطة والمسؤولية، إزالة مفردات مثل المواطنة والديمقراطية والمدنية من أدبيات السلطة وخطاباتها وقراراتها، مجازر متنقّلة تستهدف الأقلّيات، قوة ضاربة في يد سلطة جهادية... باختصار، تعيد السلطة المؤقّتة إنتاج سياسة نظام الأسد بالحرف، مع تبادل الأماكن والأشخاص.
الصادم صمت كثيرين من المثقّفين السوريين (ممّن كانوا رأس حربة ضدّ ممارسات النظام السابق) عن ذلك كلّه، في تواطؤ مخيف مع السلطة التي ترى في الثقافة أمراً هامشياً، بل يصرّح بعض عناصرها بأن للثقافة دوراً تخريبياً، متجاهلين التاريخ الثقافي السوري كلّه، وما قدّمته الثقافة السورية في زمن الثورة. يصمت المثقّف السوري اليوم عن هذا الازدراء للثقافة، ويصمت عن تحويل المجتمع مجتمعاً غوغائياً لا ينتج سوى الخطابات الطائفية المتبادلة، ويصمت عن المجازر والدم والقتل والتهجير الجديد، ويصمت عن الانتهاكات والإساءة لكرامات السوريين ومعاملتهم بوصفهم رعايا لا مواطنين، ويصمت عن تحوّل حلم المواطنة والمدنية واقعاً فصائلياً طائفياً يجعل من بعض السوريين "أهل ذمّة"، يصمت عن الخراب الكبير الذي تذهب إليه سورية نتيجة تسليم سياساتها الاقتصادية والمجتمعية لمجموعة من الفاشلين الذين لا يمتلكون أيّ خبرات سوى قربهم من أصحاب القرار، يتجاهل المثقف السوري اليوم دم الضحايا الجدد، ويتحوّل هو ذاته جلّاداً يساند سلطةً فاشيةً طائفيةً بذريعة مظلومية، يحتاج إنصافها دولة عدالة وطنية، ومشروعاً وطنياً كبيراً، متلازماً مع مشروع ثقافي سياسي مجتمعي، ينقذ سورية التي تتّجه نحو هاوية، يساهم في توسيعها مثقّفون تخلّوا عن دورهم النقدي محاباة لسلطة تشبههم.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.