في انتقاد عنواني كتابين عن الجزائر
صدر، أخيراً، في الخارج، كتابان، للمرشّح السابق لانتخابات الرئاسة الجزائر في 2019، الناشط غاني مهدي، بعنوان "وطن على طاولة القمار"، وللكاتب الصّحافي فريد عليلات بعنوان "جريمة دولة" (باللُّغة الفرنسية)، وهما يدلّلان على حركيّة في النّشر بشأن الجزائر ومشاركة في تحليل الأوضاع فيها وإعادة قراءة للأحداث التاريخية، كلّ من موقعه ووفق ما يدركه من رؤى على الجزائر.
ما يهمُّ، هنا، ليس تقريض الكتابين لأنّهما صادران في الخارج، ولم يتح لكاتب المقالة الاطّلاع عليهما الاّ من مقاطع نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، على موقع غاني مهدي، ومن لقاءات صحافية مع فريد عليلات، ولكن، بسبب عنواني الكتابين المثيرين، فانّ المقالة ستعلق، فقط، على ما يليق من عناوين كتب تصدر باسم بلد، مشيدة أو منتقدة، هذا لا يهم، لأنّ من مسؤولية صاحبه، الأدبية والأخلاقية، بل والقانونية، أيضا، ولكن لأنّ بعض العناوين، حقّا، ليست مقبولة.
استمعتُ، مثل غيري، إلى فقرات من كتاب "وطن على طاولة القمار" لغاني مهدي (يقرأ صفحات من كتابه على موقعه الذي يقدّم فيه محتوى سياسيا)، الذي ينتقد فيه أوضاع الجزائر من خلال سرد وقائع الماضي القريب، خصوصاً العشرية السّوداء (فترة المأساة الوطنية في التسعينيات) وهي سردية تُقبل أو تُرفض، في تحديد مسؤوليات الجزائريين، من فاعلين، في السُّلطة والمعارضة، على حدّ سواء، في تأجيج الوضع والتسبُّب في أحداث المأساة الوطنية، التي ذهب ضحيتها قرابة 250 ألف جزائري، نحو عشر سنوات، الى جانب ربط تلك السردية، وفق ما سمعناه يقرأه من كتابه، بمنهجية الحكم وانتقاد مقاربات التعامل مع السياسات العامّة ممّا اعتدناه، في الساحة السياسية الجزائرية، من توافق على تشريح الأوضاع وتقديم الحلول لما نراه غير مقبول من رؤى ومقاربات حوكمة البلاد.
الوطن ليس شيئا يمكن أن نلمسه لننتقده ونتطاول عليه بعبارةٍ غير لائقة
هذا شأن غاني مهدي ورأيه ولكن، ما ننتقده عليه هو العنوان الذي اختاره لكتابه، "وطن على طاولة القمار"، غير الموفّق، لأنّ الوطن الذي نتشارك، نحن الجزائريين، فيه، كنّا في داخله أو نعيش خارج حدوده، سواء كان بعضٌ منّا في صفوف السُّلطة أو في المعارضة، توافقنا على مقاربات الحوكمة أو كنّا من المنتقدين لها، نبقى كلُّنا متعلّقين به باعتبار أنّه مشترك معياري واعتباري، وليس شيئا يمكن أن نلمسه لننتقده ونتطاول عليه بعبارةٍ غير لائقة من قبيل عنوان كتاب، مثلا، متبوعاً بعبارة تشير إلى ما تمقته الأخلاق، على غرار القمار.
قد يكون الوطن غير مسيّر بالمقاربة المقبولة، وقد يكون، أيضاً، مستلباً ويقوده من يكون هناك حديث عن شرعيّته أو منتقد من حيث تعامله مع المال العام ومقاربات حوكمته الشأن العام، وفق رأي غاني مهدي. ولكن هذا الذي نتحدّث عنه يكون فرداً معيّنا، فرداً في حكومة، وزيراً أو صاحب قرار، في مؤسّسة رسمية، وليس هو الوطن ولا يمكنه أن يكون هو الوطن لأنّ الوطن رمز لمسمّى اعتباري نشترك فيه، وهو أعلى منّا، جميعاً، يضمُّنا ثمّ قد نتّفق أو نختلف، قد يكون بعضٌ منّا حاكماً والآخرون محكومين، سلطة ومعارضة، ومرّة أخرى، متشاركين في وطن اسمه الجزائر، لا يمكن أن يكون، لرفعته ولرمزية من ناضل من أجله ولتاريخه، على طاولة القمار، ذلك أنّ تلك الطاولة ترمز الى كلّ ما هو سيئ شرعا وأخلاقا. والوطن لا يمكن، أبدا، أن يكون، مهما بلغ شأن من يحكمه، على طاولة مثل التي سمّاها غاني مهدي "طاولة قمار".
ولنقرّب الفهم للقارئ الكريم والمؤلف الناشط، مع رجاء ألّا يغضب على انتقادي لعنوان كتابه، ثمّة قصّة للكاتب الفرنسي، جزائري المولد، صاحب جائزة نوبل للأدب للعام 1958، ألبير كامو، الذي انتقده زملاء له في الاتّجاه اليساري الفرنسي، على غرار هنري علاغ، على عدم رفع صوته للتّنديد بالتّعذيب الذي كان يطاول أبطال جبهة التحرير الجزائرية، خاصّة النساء منهن، على يد قوّات الجنرال ماسو، في معركة الجزائر الشهيرة، فما كان منه إلّا أن يردّ بأنّه خُير بين أمّه، رمزا لفرنسا، ووطنه، مكان مولده، الجزائر، فاختار أمّه، لتكون مقالته، هذه، آخر ما عُهد عنه، بشأن الجزائر، قبل وفاته في حادث، بداية 1960، وليكون في مقدّمة منتقديه زملاؤه، في فرنسا، والكاتب الشهير مولود فرعون، رحمه الله، الكاتب الشهيد (هناك مساجلة كلامية و مراسلات، بينهما، بشأن خيارات كامو، بشأن الجزائر).
لا تغتال الدولة الجزائرية مواطنيها، لا تسلّمهم ولا تتواطأ للقضاء عليهم عندما يكون الأمر خاصّاً بالعادي من النّاس، فما بالك بقائد تاريخي بوزن كريم بلقاسم
الشاهد من إيراد قصّة كامو استخدامه رمزية الوطن الاعتبارية مرّتين: الأولى باسم أمّه، فرنسا، والأخرى باسم مسقط رأسه، الجزائر، متّخذا قرار موقفه من المجازر التي كانت تُقترف، ورآها بأمّ عينيه بل عايشها خاصّة، للمفارقة، قبل الثورة التحريرية، في كتابه "مأساة منطقة القبائل" (مجموعة مقالاته عن المجاعة في منطقة القبائل التي زارها مراسلا لصحيفة يسارية كان يعمل فيها في 1937). ولكنه عندما وازن بين الوطنين الاعتباريين، رجحت، في عقله الفرنسي، كفّة أمّه، فرنسا، على المنطق، المبادئ والأيديولوجية التي كان يتغنّى بها، أي اليسارية.
ليختر الناشط غاني مهدي أيّ عنوان لكتابه، إلا أن تزجّ الجزائر ويربطها بطاولة قمار، وله أن ينجح في نشر كتابه الذي قال إنّه سيسافر، قريبا، الى عدّة بلدان لتنظيم عمليّات بيع بالإهداء لقارئيه، ولكن ليعد النظر في العنوان وليبتعد عن الوطن، الجزائر.
الكتاب الآخر الذي تنتقده المقالة هنا، لعنوانه، هو لفريد عليلات "جريمة دولة" يتحدّث فيه، بإثباتات، وفق ما قال، عن جريمة اغتيال قيادي الثورة التحريرية الجزائرية، المجاهد كريم بلقاسم، رحمه الله، في فرانكفورت في 1970. وبالرغم من عدم الاطّلاع على الكتاب إلّا من قصاصات صُّحف فرنسية، ومن خلال أحاديث أدلى بها عليلات لبعض القنوات، في فرنسا، وفي بودكاست، أخيراً، الا أنّ العنوان، يتضمّن إساءة الى رمزية في حجم الوطن الذي أراده، ومثّل له الناشط غاني مهدي على طاولة القمار.
في الحقيقة، لا غبار على ما جادت به قريحة فريد عليلات من حقائق بشأن جريمة فرانكفورت التي سبقه إليها تحقيق لقناة الجزيرة كشف بعض تفاصيل العمليّة التي جرت في 1970، كما أنّ لا مناص من التحقيق في أحداث تاريخية تحتاج إماطة اللثام عنها، بيد أنّ العنوان الذي اختاره لكتابة لم يكن موفّقا لأنّ الجريمة لم ترتكبها الدولة، بل هي ملازمة لمنظومة حكم وملابسات يُعرف زمانها، مكانُها وربّما حتّى الفاعلون الذين يُرجّح أنّهم تورّطوا فيها، وهم يمثّلون أنفسهم، أشخاصا، ويعملون ضمن منظومة تنفيذية خطّطت ونفّذت الجريمة، بمعنى أنّ الدولة، الشخصية الاعتبارية الممثّلة لكلّ الجزائريين، ليست هي المعنيّة بالجريمة، لا من قريب ولا من بعيد، لتُزجّ في العنوان.
ليست الجزائر وطناً على طاولة قمار ولا دولة الجزائريين فاعلا في جريمة اغتيال
لا تغتال الدولة مواطنيها، لا تسلّمهم ولا تتواطأ للقضاء عليهم عندما يكون الأمر خاصّاً بالعادي من الناس، فما بالك بمن هو شخصيّة في حجم قائد تاريخي بوزن كريم بلقاسم، رحمه الله. بالنتيجة، كيف للكاتب الصّحافي فريد عليلات أن يستخدم ذلك العنوان، وكأنّ الدولة الجزائرية مارقة، تغتال مواطنيها وتمارس عليهم الظُّلم وغيرها من مساوئ لا يمكن أن تلتصق إلّا بمنظومة حكم، بجهاز تنفيذي وبأشخاص ممثّلين لمؤسّسة ما بعيداً عن الدولة التي هي ملك للجميع وتحنو على الجميع بالقانون وبالمساواة من خلال مؤسّساتها وبخلفيّة العقد الاجتماعي الذي يربط مختلف فئات المجتمع في علاقة الحاكم والمحكوم، في الجزائر.
... إذن، الإشكال ليس في مضموني الكتابين، ذلك أنّ للناشط غاني مهدي والصّحافي فريد عليلات كلّ الحرية في تناول قضايا بلدهما، ولكن بعناوين لا تزجُّ الدولة أو الوطن، فهما رمزان وشخصيتان اعتباريتان، تجمعان الجزائريين وتجبرانهم على الانتماء إليهما، مع الاحتفاظ، في أذهانهم ودواخلهم، برفعة الرمزين وروافد الرمزين من لغة، ثوابت تاريخية، تضحيات تاريخية، المشترك الهوياتي الواسع، الظُّروف التاريخية التي نشأت من خلالها تلك الدولة، بتراكمات التاريخ والجغرافيا، ما يمنعهم من استخدام مسمّى الدولة الوطن في عناوين كتب، خصوصاً التي قد ترمز الى منطق الجريمة من قمار أو جريمة اغتيال.
يُلاحظ، في عمليّة انتقاد العنوانين، بتضمّنهما عبارات الوطن والدولة، أنّها لم تُشر، من قريبٍ أو من بعيد، الى أنّ مضمونهما يشير إلى معارضة للسُّلطة من خلال المخيال الأدبي بالنسبة لغاني مهدي، والتحقيق الصحافي المعمّق لجريمة اغتيال تاريخية ما زال يلفُّها غموضٌ كثير، بالنسبة لكتاب فريد عليلات، ما يعني، في النهاية، أنّ الاختيار غير الموفّق للعنوانين قد يدفع غاني وفريد إلى التفكير في إبعاد الوطن والدولة عن طاولة القمار وعن الجريمة، مع الاعتراف، أيضا، بأنّ الأدب والكتابة الصحافية، مثل الشعر، قد تسمح بالإبحار في سحر اللُّغة. لكن، مرّة أخرى، بعيدا عن وطن ودولة دفع الجزائريون ثمناً كبيراً في الوصول إلى اكتسابهما قد يمثّل سحر حمل العلم الوطني، في كلّ مكان، من الجزائريين، رمزاً قد يدعو أو يدفع فريد وغاني إلى الإصغاء الى هذا الانتقاد الناعم، فليست الجزائر وطناً على طاولة قمار ولا دولة الجزائريين فاعلا في جريمة اغتيال.