في تعامل نخب عربية مع السياسة التركية
أتراك يحتشدون في احتجاج في اسطنبول ضد اعتقال أكرم أوغلو وآخرين (24/3/2025 فرانس برس)
اعتقل رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، أخيراً، ضمن أكثر من مائة شخص آخرين على خلفية تهم فساد متعدّدة، وعقب يوم من إبطال جامعة اسطنبول شهادته الجامعية مع شهادات 28 آخرين، فانطلقت التحليلات يميناً وشمالاً وبتحفز أيديولوجي شديد ضد الرئيس أردوغان وسياسته وحزبه، حتى سأل عربيٌّ من ساكني مجمّعات إسطنبول الفارهة التي لا يقطنها عادة إلا الأثرياء إن لم يكن هذا اعتقالاً سياسيّاً فماذا يكون؟ فيما انبرى مصريون للقول إن لا فرق بين ديكتاتورية عبد الفتاح السيسي أو أردوغان، وأنهما وجهان لعملة واحدة، وكلها ديكتاتوريات تشبه بعضها في تسطيح وتهافت منقطع النظير، ومن دون أي اعتبار لأي سياقات شديدة الاختلاف تماماً.
إذا نظرنا في الوقائع المتاحة في الصحافة التركية، فإننا إزاء حديثٍ عن فتىً مدلّل لم يحقق نتائج جيدة تمكنه من الالتحاق بالتعليم العالي التركي، فذهب إلى جامعة خاصة تدّعي أنها دولية في جمهورية شمال قبرص التركية، لا يعترف بها سوى تركيا وحدها تقريباً، وتثور الشبهات حول رشوة إمام أوغلو أحد موظفي جامعة إسطنبول لقبول تحويله من تلك الجامعة إلى كلية إدارة الأعمال في جامعة إسطنبول في التسعينات، وهنا يبدو أن الرجل الذي يخطط لمستقبل سياسي مشرق كان يحلم بأن يلتحق بجامعة عريقة كجامعة إسطنبول، بدلاً من جامعة لا يعترف بها أحد.
أغلب الظن أن إمام أوغلو يواجه ضربة من داخل حزبه هذه المرّة، فمن سرّب فيديوهات جمع الأموال شخصٌ من الحزب
تتعلق القضية الثانية بالفساد في إدارة البلدية واحتمالية تلقي إمام أوغلو رشوة من رجال أعمال مقرّبين منه، ومنهم مستشاره الإعلامي، جرّاء مخالفات تتعلق بالمناقصات التي أُجريت لصالح شركته، كما يشتبه ارتباطهم بمنظمّات تصنّفهما السلطات منظمّات إرهابية. وبالطبع، بيان المدّعي العام ووزير العدل يتحدّث بحذر عن "الانتماء لمنظمة إجرامية" وليس إرهابية، وهذه المرّة هناك فيديوهات مسرّبة من داخل حزب الشعب الجمهوري لعد أموال وشهادات شهود، ويشتبه أن أموال بناء أحد مقرّات الحزب من أموال البلدية التي يترأسها أوغلو، والحديث أن البلاغات كانت من داخل الحزب، وهي التي بدأ التحقيق بناء عليها، ويشير البيان إلى حقوق أكرم إمام أوغلو بألا تمس سمعته، وأنه بريء حتى تثبت إدانته، لكنه ينتقد تصريحه قبيل اعتقاله بأن هذا انقلابٌ عليه وعلى إرادة ناخبيه.
عقب القبض عليه، خرجت مظاهرات كبيرة في بعض الأماكن، ومنها أمام بلدية إسطنبول. ورغم أن غالبيّتها لم تحصل على تصريح بالتظاهر من الوالي، الذي حظر التظاهر والحديث حول المسألة حتى 23 مارس/آذار حفاظاً على سرّية القضية وحساسيّتها، فجزء من الصورة أنها ليست المرة الأولى التي يجري التحقيق فيها مع إمام أوغلو، فهو تعرّض لهذا عدّة مرّات، حتى قبيل رئاسة بلدية إسطنبول في العام 2015، وكذلك في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، عندما استدعي للتحقيق، واحتج أنصاره وحدثت اشتباكاتٌ مع الشرطة كما حدثت هذه المرّة أيضاً وأصيب فيها عدة عناصر من الشرطة، واعتقل بعض أنصاره.
لا جريمة كاملة هنا، فأنصار الرجل يقولون إنه لو كانت هناك جريمة فإنها سقطت بالتقادم، ثم ينشرون صوراً لشهادته للماجستير، إذ ينصّ الدستور التركي على أن المرشح للرئاسة يجب أن يكون لديه شهادة جامعية، وهناك نقاشات قانونية ما إذا كان المقصود بهذه الشهادة بكالوريوس حصراً أم شهادة دبلوم تكفي؟ والأمر غير محسوم، إذ يمكن لأردوغان أو أي طرف تركي أن يرفع دعوى للضغط على المجلس الأعلى للانتخابات لاعتماد شهادة البكالوريوس شرطاً للترشّح للانتخابات الرئاسية، لكن يتبقى لأوغلو حل جنوني، إذ يمكن أن يكسر التوقعات، ويلتحق بأي جامعة للتعليم المفتوح، ويحصل منها على شهادة جامعية قبل مايو/أيار 2028 والانتخابات بفترةٍ بسيطة.
من زار إسطنبول قبل أوغلو وبعده يشهد أنها كانت أكثر نظافة ونظاماً وجمالاً وانسيابية مرورية مما هي عليه حالياً
بطبيعة الحال، وبعيد اعتقاله على خلفية تلك الاتهامات، قامت الدنيا ولم تقعد ضد أردوغان وتركيا، حتى أن ساسةً أوروبيين عديدين أصدروا بيانات إدانة وشجب وتنديد، وكذلك فعل بعض نخب المنطقة العربية وصحفها وقنواتها المتربّصة. ونحن هنا أمام مفارقات مهمّة، الأولى أن الاتحاد الأوروبي الذي لا يعترف بجمهورية شمال قبرص التركية يبدو كما لو كان يعترف بشهادة أوغلو من جامعة أميركية خاصة هناك. الثانية أن إمام أوغلو وأنصاره يصفون اعتقاله على خلفية الاتهامين المتعلقين بشهادته التي يمكن اعتبارها مزوّرة وقضايا الفساد التي فيها أدلة بالصوت والصورة وشهود، بالانقلاب على إرادة الجماهير التي انتخبتهم، وفي الوقت نفسه، يطالبون منذ عدة أشهر بانتخابات رئاسية مبكّرة، أملاً في كسب الانتخابات الرئاسية التي خسروها، ويتلازم مع هذه المفارقة غباء سياسي منقطع النظير، فأردوغان لو نفذها وفاز سيبقى حتى 2030، بينما لو لم يجر الانتخابات الرئاسية المبكرة لن يستطيع البقاء إلا للعام 2028. وتبدو هذه الدعوات حركة طفولية جدّاً، فإذا كان كل حزب يخسر انتخابات رئاسية أو برلمانية يطالب بانتخابات مبكّرة فستعيش البلدان في انتخابات دائمة. صحيح أن لديهم مخاوف من أن يمرّر أردوغان تعديلات دستورية، لكنه، في أغلب الظن، لن يستطيع تمريرها بالمعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والانتخابية الحالية.
المفارقة الأخرى أن النقد الأشد لأردوغان في هذه القضية قادم من بلدانٍ ليست لديها بلديات منتخبة ذات صلاحياتٍ يمكن مقارنتها بتركيا، أو من محسوبين على المعارضة المصرية في بلدٍ لا تريد سلطتها تعديل قانون المحليات على ضعفه، ولا تريد عمل انتخابات شعبية محلية شكلية لم يتم إجراؤها منذ العام 2008، وجرى حلها فيما بعد الثورة، ثم بعد الانقلاب جرت العودة إلى تعيين الغالبية الساحقة من المحافظين من العسكريين بنسبة أكثر مما كانت عليه خلال أسوأ فترات حسني مبارك في مصر، فأكثر من 17 محافظاً هم من الأمنيين والعسكريين من بين 27 محافظاً، ويريد الرجل أن ينصّب ضابطاً على كل قرية، لأن أداء المدنيين لا يعجبه في أي مجال.
ما يغيب عن هؤلاء أيضاً أن هناك خلافات داخلية كبيرة في حزب الشعب الجمهوري منذ الانتخابات الرئاسية الماضية (مايو/أيار 2023)، وهي خلافاتٌ كانت بالأساس حول من يترشّح عن الحزب في الانتخابات الرئاسية، رئيس الحزب أم أشهر شخصياته من رؤساء البلديات. وفي لحظة تصويت عقابي واسع ضد أردوغان، مثل الانتخابات الماضية، ربما لو ترشّح أكرم إمام أوغلو لحسم الانتخابات لصالح الحزب وفق بعضهم، وقد امتدّت الخلافات بعد سقوط كليتشدار أوغلو وانتخاب أوزغور أوزال رئيساً للحزب. ولأن الحزب حسم أغلبية البلديات وعدداً لا بأس به من مقاعد البرلمان برز إمام أوغلو مرشّحاً للرئاسيات المقبلة، وسط حملة تلاوم واسعة ضد قيادة الحزب السابقة، إلا أنه يواجه منافسة من رئيس بلدية أنقرة وربما من رئيس الحزب.
عندما لا نكون فاعلين، حتى في شأننا الداخلي، وغير مطلعين بما يكفي على ما يجري، لا نملك رفاهية تخيّل قدرتنا على هندسة الدول حولنا
يحكم حزب الشعب الجمهوري غالبية الشعب التركي عددياً منذ 2019، فقد كان يحكم أكبر الولايات، إسطنبول وأنقرة وأزمير، بالإضافة إلى عدد كبير من الولايات، وإن لم يكن غالبية الولايات الـ81 عددياً فهو غالبيتها سكّانيا. والحقيقة أنهم ليسوا الأنجح في البلديات، وفقاً لكبار السن والباحثين المنصفين، ومن زار إسطنبول قبل أوغلو وبعده يشهد أنها كانت أكثر نظافة ونظاماً وجمالاً وانسيابية مرورية مما هي عليه حالياً، لكنهم يفوزون بالتصويت العقابي، والذي تكون للشباب فيه الكلمة العليا، وبالذات في بلدٍ يشهد واحدة من أعلى نسب المشاركة عالمياً فوق 85% في آخر عقدين، ويصعب، إن لم يكن يستحيل، تزويرها لخضوعها لإشراف قضائي دقيق وفرز في اللجان الفرعية وعلى مرأى ومسمع الصحافة والإعلام، وهو نفسه القضاء الذي أنصف أوغلو، وأشرف على الانتخابات التي أتت به.
أغلب الظن أن إمام أوغلو يواجه ضربة من داخل حزبه هذه المرّة، فمن سرّب فيديوهات جمع الأموال شخصٌ من الحزب، والحديث عن قضايا الفساد في البلدية كثير ومتناثر منذ سنوات، وبالتالي كان عليهم أن يتحسّسوا من أية شبهات فساد في مناقصات أو علاقة الحزب بالبلدية وغيرها، وأن يبتعدوا بالحزب عن هذه التهم، بدلاً من تسييس كل القضايا بفجاجة والدخول في عداء مع القضاء.
جيّد أن نهتم، نحن العرب، بما يجري في دول الجوار المركزية في المنطقة. ولكن عندما لا نكون فاعلين، حتى في شأننا الداخلي، وغير مطلعين بما يكفي على ما يجري، لا نملك رفاهية تخيّل قدرتنا على هندسة الدول حولنا، وفقاً لتصورات ورؤية أحادية لنخب عربية تنظر إلى أردوغان وتركيا بوصفهما خطراً إسلاموياً، وتشجع معارضة شعبوية ضد العرب، وتراه سلطاناً، بينما تدور السياسات التركية كلها في إطار قومي علماني شديد البراغماتية، وكثير من جوانب الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد وتفاعلاتها فيها غير مفهومة بعد.