قديم يتغيّر وعالم يتشكّل

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
زلزال كوني شملت ارتداداته سائر المناطق في العالم. زلزال عُمّد تحت أسماء مختلفة منها الحرب التجارية العالمية، أو حرب التعرفة الجمركية، التي أعلنها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بتوقيعه الأشبه ما يكون بالخطّ البياني المجسّد لشدّة الزلزال ومركزه وحدود تأثيراته القريبة والبعيدة وفق مقياس ريختر. وباعتبار أن هذه الظاهرة غير مسبوقة بمثل هذ النطاق والحجم على مستوى العلاقات بين الدول الصناعية الكبرى، بعد سنوات من التنظير لفوائد العولمة على صعيد تطوير الاقتصادات الوطنية، وتنمية العلاقات التجارية الدولية وحمايتها بضوابط قانونية، تجلّت في نهاية المطاف في الاتفاقات والمعاهدات الدولية حول حماية التجارة العالمية وضبط قواعدها لصالح الجميع.
ومن الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة لا تميّز كثيراً في خضم هذه الحرب التجارية (السريالية) بين الحلفاء المعهودين الاستراتيجيين، والأصدقاء المقرّبين وفق الحسابات الآنية التكتيكية، وتركزّ في الصين بدرجة أساسية، مع تعامل مرن مع روسيا، وذلك وفق عقيدة جديدة في ميدان الصراعات الدولية تقوم على حسمها بناءً على الحسابات الاقتصادية لا العسكرية. وذلك بعد أن كانت العقيدة القديمة تفضّل الحسم العسكري من أجل فتح الطريق أمام الأسواق التجارية، والسيطرة على مكامن المواد الأولية، والتحكّم بالتكنولوجيا، وغيرها من المقوّمات الضرورية للثورة الصناعية. ولكن الذي حدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي نتيجة تراكمات عوامل الفساد الداخلي، والعجز عن تلبية الحاجات الأساسية للشعوب التي كانت خاضعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة له، ووصول الدول العربية والإسلامية إلى مرحلة التأثير الصفري تقريباً في ميدان التأثير الفعلي في الوضع العالمي على مختلف المستويات (الاقتصادية والعلمية والعسكرية والتجارية... إلخ)، أصبحت الصين القوة العالمية المؤهَّلة بصورة جدّية لمنافسة الولايات المتحدة، رغم أن زمام المبادرة ما زال في ميادين مختلفة، لا سيّما في المجالات المصرفية والمالية وقوة الدولار وجاذبيته، بيد الولايات المتحدة.
لم يعد الاقتصار على التكنولوجيا العسكرية التقليدية وحدها كافياً للتلويح بورقة الترشّح لموقع مركز من المراكز القيادية الكونية
فالصين اليوم تمتلك اقتصاداً قوياً، وفي حيازتها تكنولوجيا متقدّمة تتطّور وتتراكم باستمرار، كما تمتلك طاقةً إنتاجية شبابية حيوية غير مكلفة مقارنة بما هو عليه الحال في أميركا. ولديها شراكات تجارية واسعة مع أكثر من 150 دولة، إلى جانب امتلاكها كثيراً من المنشآت والمواقع والطرق التجارية في آسيا وأفريقيا، وحتى في أوروبا، ولديها نفوذ واسع على مراكز ومواقع أخرى استراتيجية في مختلف أنحاء العالم. وهي تسعى إلى جانب ذلك كلّه، من أجل تطوير ترسانتها العسكرية، وتستفيد من آخر تقنيات الذكاء الاصطناعي، وربّما ما بعد الذكاء الاصطناعي غير المُعلَن عنه.
وكان من اللافت أن الإدارة الأميركية السابقة (إدارة جو بايدن)، كانت تسعى إلى تحييد الموقف الصيني عبر التوافقات التجارية، وخفض درجة التوتّر مع الصين للتفرّغ لمواجهة النزعة الإمبراطورية الروسية في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، الذي كان (وربّما ما زال) يسعى إلى كسب ودّ الصين ودعمها له في مواجهة التحالف الأميركي الأوروبي، فجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتعرّي الضعف الروسي الصارخ في ميدان التكنولوجيا الصناعية الثقيلة والدقيقة وعالم الذكاء الاصطناعي، وهي ميادين أساسية في مجال حسم الصراعات بين القوى المتنافسة على مستوى الريادة العالمية.
أمّا الاقتصار على التكنولوجيا العسكرية التقليدية وحدها فلم يعد كافياً للتلويح بورقة الترشّح لموقع مركز من المراكز القيادية الكونية، ولعلّ هذا ما يفسّر توجّه ترامب نحو تحييد الروس بغية التفرّغ لموضوع الصين، مع العلم بأنه من الصعوبة بمكان التكهّن بخطط وفِكَر ترامب، التي يغلب عليها الطابع المزاجي الارتجالي، لدرجة أنها تدفع بالخبير المتابع إلى العجز عن التمييز بين الجِدّي والهزلي فيها، كما هي الحال بالنسبة إلى موضوع الرغبة في السيطرة على قطاع غزّة أرضاً، بعد تفريغ القطاع من أصحابه، فهو (ترامب) يعلن تارة رغبته في الاستحواذ على الأرض، ثمّ يعود في مناسبة أخرى ليبيّن أن ما ذكره كان مجرّد اقتراح، وبأنه لن يجبر أحداً على الخروج من أرضه. والأمر نفسه بالنسبة إلى غرينلاند، الأمر الذي تسبّب في توتير العلاقات مع الدنمارك ومعها الدول الإسكندنافية الأخرى.
والأسئلة التي تفرض ذاتها في سياق هذه الخضّات غير المألوفة كلّها هي: هل يمكن الفصل بين المتغيّرات الدراماتيكية المتلاحقة المتسارعة التي حدثت تباعاً في المنطقة (ستتواصل على الأرجح)، وهي متغيرات لم تكن متوقّعة قبل سنوات، بل ربّما كان مجرّد الحديث عنها يدخل في عداد التحليلات الرغبوية الذاتوية الأقرب إلى الفكر التأمّلي المنفصل عن الواقع؟ وهل هي متغيّرات فرضتها سلسلة متواصلة من التراكمات في الميادين الاقتصادية والتكنولوجية، التي من شأنها التأثير مستقبلاً في تحديد معالم القوى التي قد تظهر على المستوى العالمي، والمعني هنا الصين بالدرجة الأولى بطبيعة الحال؟ أم ستشهد المرحلة المقبلة المزيد من الإصرار من جانب الولايات المتحدة في الاستمرار بدورها المهيمن القادر على ضبط الأوضاع، وترتيب المعادلات وفق الموازين التي تتناسب مع مستلزمات المحافظة على هذا الدور؟
من الواضح أنّ الاعتماد الأميركي فيها سيكون بصورة أساسية على إسرائيل، لتصبح قوةً إقليميةً رادعةً
التحولات النوعية البنيوية التي يشهدها العالم في مختلف الأماكن، سواء في منطقتنا أو في أوروبا، وحتى على مستوى منطقة جنوب شرقي آسيا مستقبلاً، ستكون لها آثار عميقة في مجرى الأحداث الإقليمية والكونية خلال المائة عام المقبلة على الأقلّ. وهي تحوّلات لا يمكن تفسيرها من خلال الأمزجة الخاصّة أو الحسابات الشخصية التي تعود إلى هذا الزعيم أو ذاك، وإنما هي تحوّلات تنمّ عن صراع حادّ خفي علني بين قوى كونية كبرى، سواء على صعيد الدول الكبرى المركزية المؤثّرة، أو حتى بين شركات عملاقة باتت متحكّمة في كثير من مفاصل الاقتصاد العالمي، وحتى في الأمور العسكرية، ومؤثّرة في عالم الفضاء والذكاء الاصطناعي. وهناك ظاهرة لافتة تتمثّل في قيام صيغة من التعاون والتكامل وتبادل الأدوار بين هذه الشركات ومواقع صنع القرار في الدول المركزية.
وفي جميع الأحوال، لا يمكننا هنا أن نتجاهل، في إطار تناولنا ما يجري راهنا في الساحة الدولية، تصريحات المسؤولين الأميركيين السابقين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي (كوندوليزا رايس ودونالد رامسفيلد)، كما لا يمكننا غضّ النظر عن استنتاجات الباحثين المستقبليين مثل فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون بشأن "الشرق الأوسط الجديد"، و"أوروبا الجديدة"، والوضع الجديد المتوقّع على المستوى العالمي في الحقبة الزمنية المقبلة، وما يُستشَفّ من ذلك كلّه يوحي بوجود توجّهات استراتيجية حساسة للغاية غير مسبوقة استعداداً للتعامل مع تحدّيات مستقبلية كبرى، قد تتسبّب في إحداث انتكاسات كبرى على صعيد القيادة الأميركية الكونية، ما لم تُدرَس الأمور بعناية.
أمّا بالنسبة إلى منطقتنا، فمن الواضح أنّ الاعتماد الأميركي فيها سيكون بصورة أساسية على إسرائيل، لتصبح قوةً إقليميةً رادعةً، وفي الوقت ذاته تكون قوّةً يمكن التعامل معها من الدول الإقليمية، خاصّة العربية منها، وذلك في صيغة عقد اتفاقيات التطبيع، وهي الاتفاقيات التي كانت تُعدّ سابقاً من المحرّمات التي لا يجوز مجرّد التفكير فيها. ويُشار في هذا المجال (على سبيل المثال) إلى مبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وما دفعته مصر من أثمان لقاء ذلك.
ومن اللافت في السياق ذاته غضّ النظر الأميركي عن التمدّد الإيراني في العراق، بل سيطرة النظام الإيراني الراهن، الذي من المفروض أنه على علاقة عدائية مفتوحة مع أميركا على مفاصل الدولة العراقية، بما ذلك الأمنية والعسكرية، وتشكيل المليشيات التي غدت تجارة مفضّلة لدى الإيرانيين، بعد تجربة حزب الله في لبنان.
تحولات النوعية البنيوية التي يشهدها العالم ستكون لها آثار عميقة في مجرى الأحداث الإقليمية والكونية خلال المائة عام المقبل
يمنحنا التمعّن في ما يجري كلّه، وسيجري في المنطقة، مشروعية الاعتقاد بأننا سنشهد في المستقبل المنظور تحوّلات عميقة نوعية، لن تقتصر على إعادة التحالفات والاصطفافات، بل ستشمل إعادة صياغة تشكيل الدول وأنظمتها وشروط التعامل معها. غير أنه من الواضح في جميع الأحوال أن النظام الإيراني لن يكون خارج نطاق المساءلة والمحاسبة بعد انتهاء دوره الوظيفي التخادمي في المرحلة الحالية، وبعد أن أوصل دول المنطقة ومجتمعاتها إلى وضعية الحطام وفق جميع المقاييس وعلى مختلف المستويات، بل لقد سدّ هذا النظام نفسه الآفاق أمام الشعب الإيراني لا سيّما الأجيال الشابة منه، وهي الأجيال المعروفة بقدراتها الإبداعية، ورغبتها في أداء دورها الفاعل على صعيد الطموح والرغبة والقدرة، لتمكين مجتمعها من التقدّم عبر تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار.
وفي هذا المجال، يلاحظ المرء أن المباحثات أخيراً، بين المسؤولين الإيرانيين والأميركيين بقيادة كلّ من ستيف ويتكوف وعباس عراقجي في عُمان، ربما كانت تسليماً من قيادة النظام الإيراني الحالي بضرورة النزول من الشجرة، والقطع مع سياسات العناد والشعارات. وهذا أمر سيكون في مصلحة الشعب الإيراني أولاً، ولصالح شعوب المنطقة بأسرها، لا سيّما الشعب الفلسطيني، الذي يدفع ضريبةً قاسيةً للغاية في غزّة نتيجة الصراع مسدود الآفاق بين إسرائيل و"حماس".
فالفلسطينيون اليوم هم بأمسّ الحاجة إلى توحيد الموقف الداخلي والتنسيق الكامل الفاعل مع الدول العربية المؤثّرة، لا سيّما مع مجلس دول التعاون الخليجي بقيادة السعودية، وكذلك مصر، وبدعم من الاتحاد الأوروبي ومنظمّة دول التعاون الإسلامي، وذلك للدفع بموضوع حلّ الدولتَين، حلّاً واقعياً مستداماً، وإلا يبدو أن هناك رغبة إسرائيلية واضحة لتجاوز هذا الحلّ، وهذا الأمر إن حصل لن يكون بعيداً من التفاهمات الإسرائيلية الأميركية في سياق الترتييات التي تتم لاستكمال بنود ما يُسمّى "صفقة القرن"، إن لم نقل صفقة القرون، وإخراجها إلى حيّز التطبيق.


كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.