كلّ عارٍ وسورية بخير
غادر الأَخوان ملص سورية بعد اعتقالاتٍ في بداية الثورة، وبعد اقتحام مدينتهما داريا (المدينة التي نشطت فيها حركة الإسلام اللاعنفي، وكانت بداية الثورة مثالاً ناصعاً لسلمية الثورة ونظافتها)، واستقرّا في مجتمع أوروبا الحرّ، حيث واصلا عملهما في المسرح. ومع سقوط نظام الأسد، عادا مبكّراً إلى سورية، وفي نيّتهما الاستقرار والشغل المسرحي مع الشباب السوري. وبالفعل، بدآ بذلك في كلّ المحافظات بدعم من وزارة الثقافة التي أوقفت عرضاً أخيراً لهما بعنوان "كل عار وأنتم بخير" عدّة مرّات لأسباب غامضة، يقدّرها بعضهم بأن "الشيخ" المعيّن في وزارة الثقافة لم يرضَ عن مضمون العرض، وتراجعت الوزارة عن القرار بتدخّل أشخاصٍ نافذين. إلى أن كتب الأَخوان ملص منشوراً في منصّة فيسبوك ينتقدان فيه سلوك السلطة المؤقّتة، ومجازرها في السويداء، أُوقفت في إثره العروض والورش، وأُنهي دعم الوزارة لهما. جرى هذا بمكالمة هاتفية من مسؤول كبير في وزارة الثقافة التي اعتذرت (كالعادة) بعد أن أصبح الخبر "ترنداً" في مواقع التواصل الاجتماعي، وتذرّعت بأنه سلوك من موظّف هامشي، وعادت لتسمح بالعرض.
فتحت حادثة الأَخوين ملص باب التساؤلات عن مسألتَين أساسيَّتَين جرى نقاشهما في مواقع التواصل. تتعلّق الأولى بدور المثقّفين والفنّانين في هذه المرحلة الحرجة في التاريخ السوري، وهل من الصحيح تمييز السلطة المؤقتة الحالية عن النظام السوري السابق؟ بمعنى آخر، رفض كثيرون من الفنّانين والمثقّفين العودة إلى سورية زمن نظام الأسد رغم محاولاته مفاوضة بعضهم، ودعوتهم إلى العودة والعمل في البلد، لكنّ قلّةً قليلةً جدّاً قبلت العرض وعادت، ذلك أن العودة وقتها والعمل مع مؤسّسات النظام (حتى القطاع الخاص كان تابعاً للنظام) كانا يصبّان في إطار محاولة تبييض صفحة النظام من الجرائم والمجازر التي ارتكبها. لماذا إذاً يقبل الفنّانون والمثقّفون اليوم العمل ضمن مؤسّسات السلطة المؤقّتة، مع أنها ارتكبت في أقلّ من أربعة أشهر مجزرتَين كبيرتين، وتكرّس خطابَ كراهية شعبوياً ومبتذلاً، وتكرّس انقساماً طائفياً شديدَ الوضوح في المجتمع السوري؟ هذا كلّه من دون ذكر تاريخ هذه السلطة في أثناء حروبها الفصائلية الجهادية قبل سقوط نظام الأسد. أليس من واجب المثقّف والفنّان رفض التعامل مع هذه السلطة؟
وتتعلق المسألة الثانية التي أثيرت بآلية العلاقة مع مؤسّسة رسمية مثل وزارة الثقافة، فإذا كان على من يعمل في هذه المؤسّسة (أو يتعاون معها) أن يغضّ النظر عن أخطاء السلطة وكوارثها ومجازرها، ويكمل عمله كما لو أن لا شيء يحدث، وعليه أن يصمت عن المجازر المرتكبة، حتى لو كان يدرك أنها مجازر طائفية سوف تودي بالوطن إلى الهاوية، في مقابل الحفاظ على مكسب ما، فما الذي اختلف عن نظام الأسد إذاً؟ أليس ما يحدث اليوم نسخة ممّا كان يحدث سابقاً؟ أليست في هذا رقابة على الرأي والفكر ومصادرتهما لصالح السلطة؟ هل هكذا تدار دولة يفترض أنها أتت نتيجة ثورة شعبية تطالب بالحرّيات السياسية والعامّة؟ كيف يُقبَل بابتزاز المثقّف أو الفنّان في عمله ضماناً لولائه للسلطة؟ ثمّ يتعلق السؤال الأكثر أهميةً بالرؤية التي تملكها السلطة الحالية للثقافة، وماذا تعني بالنسبة إلى سلطةٍ ذات توجّه سلفي جهادي عيّنت "شيخاً" مسؤولاً أولَ في وزارة الثقافة؟
ثمّة أسئلة عديدة يجب طرحها على المثقّف السوري المؤيّد للسلطة الحالية، والصامت عن ارتكاباتها. أسئلة تتعلّق بجدلية الانتماء والمواطنة ودور الثقافة فيهما. أسئلة لطالما طُرِحت على مثقّفي نظام الأسد من مثقّفي السلطة الحالية: كيف يمكن لمثقّف أن يؤيّد سلطة ما، مطلق سلطة، فكيف بسلطة لا تنتج إلا العار، أو تواصل عاراً أنتجه من قامت الثورة ضدّه؟