كمال داود: "لماذا يجب أن نخون... أحياناً"
ما زال كمال داود يثير الجدل في الجزائر بما ينشره، سواء تعلّق الأمر بالشأن الجزائري أو معلّقاً على أزمات العالم العربي، خصوصاً الحرب في غزّة. نشر أخيراً كتاباً يحمل العنوان أعلاه، والغريب في الأمر إشكاليتان تستدعيان قراءة محفّزات نشر مثل هذا العنوان من كاتب هو أصلاً في الجزائر غارق إلى أذنيه في تهم بالخيانة. أولاهما أنّ ناشر كتابه، دار Gallimard، هي نفسها التي نشرت كتابه الأوّل "الحوريات" المثير للجدل، والمتابَع بسببه أمام المحاكم في فرنسا والجزائر. والإشكالية الثانية إثارته كلمة "الخيانة"، وهي في السّياق الجزائري الفرنسي تحمل دلالاتٍ غاية في العمق في الذاكرة الجزائرية، بسبب آلاف "الحركى" الخونة، الّذين خدموا في الجيش الفرنسي في أثناء الحرب التّحريرية الجزائرية (1954 - 1962)، وهي دلالة تعمّق من حالة زادها عمقاً ذلك العنوان.
لا يدّعي صاحب هذه المقالة أنه قرأ الكتاب، لعدم توافر إمكانية للحصول عليه، لا ورقياً ولا إلكترونياً، وإنما تعرف على مضامينه من بعضهم في وسائل التّواصل الاجتماعي، وبسبب بعض التّعليقات.
يكتب كمال داود من موقع الخادم لسيّده (الفرنسي) لينال إعجابه
بدايةً، يجب التّركيز في مفردة "الخيانة" وأبعادها الدلالية اللغوية أوّلاً، ثمّ نفسياً، وفي سياق تاريخي في بلد تقريباً دفع كلّ بيت وكلّ عائلة فيه ثمناً غالياً لاستعادة استقلال البلاد، إذ ينشر كمال داود، الذي عاش في الجزائر، ويعرف تلك الدلالة وذلك السياق، وعلى خلفية ملفّ الذاكرة الشائك في العلاقات المتوتّرة بين الجزائر وفرنسا، ينشر بالرغم من ذلك كلّه كتاباً يضع في غلافه تلك الكلمة، ويرفقها باستفهام يُستفاد منه في حالته "وجوب الخيانة"، تماماً مثل فعل آلاف "الحركى" في أثناء الثورة التحريرية، وبعدها (وما يزالون)، لتبرير توجّههم نحو التعاون مع فرنسا ضدّ بلادهم، وضدّ مسار الثورة التحريرية.
ما دفع كمال داود إلى وضع "الخيانة" في عنوان كتابه أسباب منها التّغطية على كلّ الفضائح التي ترافقت مع نشر روايته "الحوريات"، ثمّ الربط بين تلك الرواية وكتاباته العجيبة التّي رفضها حتى الفرنسيون أنفسهم، على غرار مقالته عن أحداث كولون الألمانية، التّي اعتُدي فيها في أعياد ميلاد 2016 على سيّدات ألمانيات، كان داود السبّاق إلى اتّهام شباب مغاربيين بتلك الاعتداءات، بالرّغم من غياب أيّ أدلّة، وبعنوان مثير للجدل أشار فيه إلى تهمة زائفة تتمثّل في الكبت الجنسي لدى شباب بلاده، إلى درجة أنّ الشرطة الألمانية بعد التحقيق برّأت المغاربيين، ودفعت مفكّرين فرنسيين إلى الردّ عليه عبر بيان نشرته صحيفة لوموند.
وعلى المستوى النفسي، هناك أكثر من مستوى يمكن الكتابة فيه بشأن كمال داود، الذي يتصرّف من منطلق الخادم ذاته لسيّده لينال الإعجاب، ودليل هذا أنّه ينظر في سياق ما يعجب الفرنسيين، فيكتُب فيه مقالاته الأسبوعية في "لوبوان" مرّة عن الفلسطينيين الذين يصفهم إرهابيين، وبأنّ العنف متأصّل في العرب، سواء تعرّضوا للظُّلم أم لا فهم (وفق كلامه) يتصرّفون بصلافة وهدفهم التّرويع، ومرّات أخرى (وهذا أمر طبيعي فيه) لا يتوقّف عن توجيه العبارات المهينة إلى الجزائريين بوصفهم متطرّفين، رجعيين، سلوكاتهم تتضمّن التوجّه العنفي خصوصاً ضدّ المرأة، التي يقول إن الجزائريين يحطُّون من قدرها ويكرهونها، إضافة إلى إهدار حقوق الطفل، بل يكتب، في مقالات كثيرة، إن الجزائريين يحملون في جيناتهم الرجعية العنف وإرادة التأخّر، وأن الحضارة لا تليق بهم.
أما السياق التاريخي، فهو بارعٌ في محاولة اللّعب على وتر الذّاكرة التي يقول عنها مثل الفرنسيين اليمينيين إنها ريع يتلاعب به السياسيون الجزائريون لابتزاز فرنسا، كما حاول استغلال المأساة الوطنية (العشرية السوداء التي عاشت الجزائر في أثنائها، في تسعينيّات القرن الماضي، أزمةً أمنيةً أودت بحياة عشرات آلاف من الجزائريين)، بالكتابة عن قصّة فتاة كانت ضحيّةً في تلك الفترة، وملفّها النفسي عند طبيبة نفسية يعرفها كمال داود (زوجته الثانية). وبالرغم من رفض الفتاة طلب تحويل مأساتها روايةً، استغلّ سرّية الملفّ، ونقل يوميات المأساة مع تعديلات لم تخفَ على صاحبتها التي رفعت قضيةً أمام المحاكم في فرنسا وفي الجزائر ضدّ الكاتب، وقد يؤدّي ذلك إلى استعادة الجائزة الأدبية منه.
بالإشارة إلى السياق التاريخي لكلمة "الخيانة"، أثار داود كثيراً من الانتقادات بسبب عنوان كتابه أخيراً، الذي هو إعادة نشر لمجموعة مقالات كان قد نشرها، وبعضها لا يشير إلى الحرب التحريرية، ولكن بسبب محاولته نيل إعجاب الفرنسيين، وربما الفوز بجوائز أخرى، وعلى خلفية إشكالية الذاكرة بين فرنسا والجزائر، أورد "الخيانة"، وهي تحمل مضامين مغروسة في وجدان الجزائريين، إضافة إلى أنها تليق بملفّه وملفّ الكاتب بوعلام صنصال، وكلاهما للعلم لم يصبحا مواطنَين فرنسيَّين إلا منذ أكثر من عام وقرابة العام، على التوالي.
الإشكالية الأخرى حقيقةً، أنّ لدى فرنسا قرابة الألفين من رعاياها مسجونون عبر العالم بتهم مختلفة، ولكن الوحيد الذي تركّز فيه هو صنصال، وما لا يفهمه كمال داود سياق الانخراط في كتابات وتصريحات ومواقف ضدّ الجزائر، وفيما يتوافق مع الموقف الرسمي للدولة الفرنسية في فترة توتّر، بل العجيب تزامن نشر كتابه وفيه كلمة "الخيانة"، إضافة إلى انخراطه في نداءاتٍ لعفو رئاسي جزائري عن صنصال في ذكرى استقلال الجزائر، وكأنّ ذلك الاستقلال جاء من دون تضحيات، وأنّ الاستقلال مجرّد رفض الجزائريين البقاء تحت الاستيطان الفرنسي، في حين أنّ ثقل الذاكرة مفصلي وحيوي للجزائريين، خصوصاً عندما تحين ذكرى انطلاق الثورة التحريرية (الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني من كلّ عام) أو ذكرى الاستقلال (في 5 يوليو/ تموز من كلّ عام)، وهما احتفالان يبكي فيهما الجزائريون قوافل من الشهداء يبلغ عددهم، وفق الشهادات والوثائق التّاريخية (1830 – 1962)، زهاء 10 إلى 12 مليون جزائري، كما سبق الإشارة إليها في أكثر من مقالة في "العربي الجديد".
يعرف داود وصنصال أنّ التّعامل مع عدوّ الأمس، والعمالة له اليوم، لن تكون نتائجهما إلا وخيمةً
في مقدّمة المقالة، تمّت الإشارة إلى محفّز خفي يكون الوقت قد حان للكتابة عنه، أن فرنسا تضغط حتماً ليكون صنصال، على غرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، صاحب جائزة نوبل للأداب، وداود يُكثر من الضغط بكتاباته، ليس دفاعاً عن هذا التوجّه الفرنسي، بل هو أيضاً يتحفّز لنيل ترشيحٍ يترافق (وفق زعمه) مع كلّ التحامل الجزائري عليه وعلى صاحبه لتتشابه الجائزة، إن جرى ترشيحهما فعلاً، ونالها أحدهما، تلك الجائزة التي نالها ألبير كامو المولود في الجزائر، ولكنّه الخائن للجزائر بسبب موقفه من التعذيب والجرائم الاستعمارية التي كانت فرنسا تقترفها، وكان زميلاه هنري علاق وجان بول سارتر ممّن ندّدوا بها وعادوها بسببها كامو، اليساري والإنساني زعماً.
نحن، بشأن كمال داود مع حالة تستدعي دراسةً، ليست أدبيةً فقط بالرغم من أهميتها، لأنّه صاحب قلم له مستوى، وهذا لا نشكّك فيه، بل تستدعي تحليلاً نفسياً، ذلك أنّ حالته في المواقف ضدّ بلاده لا يمكن إيجاد تفسير لها إلا في وجدان المريض نفسياً، أو فيمن يحبّ أن يعيش دور الذليل للفرنسي ولو على حساب قومه، ومنهم عائلته، بل منهم أمّه وأبوه، لأنهما جزائريان.
في هذا الشأن، كانت وكالة الأنباء الجزائرية مصيبةً في تناولها حالة صنصال في أحد تعليقاتها، وهي لائقة بداود أيضاً، إذ ذكرت إن صنصال ولد جزائرياً وعاش إلى أن بلغ قرابة 75 عاماً جزائرياً، فكيف لفرنسا أن تقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل شخصٍ لم تجنّسه إلا منذ قرابة العام فقط؟
هناك، في حالتي داود وصنصال، أكثر من شريط وثائقي (عرضتها قنوات فرنسية) عن مآسي الخونة أو "الحركى"، الذين رحّلتهم فرنسا قبل يوليو/ تموز 1962 إلى المدن الفرنسية، والذين لتشكرهم على خدماتهم النبيلة لأمّهم فرنسا وضعتهم في مخيّمات، وفي أراضٍ جرداء محاطين بسياجٍ أعواماً، ومعهم أبناؤهم الذين لا ذنب لهم. أما بعضهم فيتذكّرون معاملة فرنسا لهم، ولعلّ داود وصنصال يعيان دروس تلك المعاملة، ويعرفان (وأمثالهما) أنّ التّعامل مع عدوّ الأمس، والعمالة له اليوم ضدّ الوطن، لن تكون نتائجهما إلا وخيمةً، على الأقلّ على مستوى القيم والنفس وفي ما يخص الأهل والأقارب.