ليست خيبةً واحدةً وحسب
(إيتيل عدنان)
يظلّ المرء أحياناً أسيراً لمشاعر متشابكة لا يعرف لها حدوداً واضحةً، ولا يجد لها تفسيراً إلا في صمت الذات ومساءلات القلب. الثقة، تلك الهبة الدقيقة التي يمنحها المرء من دون قيد أو تحفّظ، تحمل في طياتها كل جمال العلاقة الإنسانية، وكل خطر الانكسار المفاجئ.
حين يفتح المرء قلبه ويمنح الآخر امتداد وجوده الداخلي بلا تحفّظ، لا يكون ذلك الامتداد مجرّد مساحة من العاطفة، بل هو رقعة عرضة للخطر، مساحة تتربّص بها خيبات محتملة لا يراها إلا من اختبرها بعين اليقين. الإنسان بطبيعته كائن يتوق إلى الأمان النفسي، يبحث عمَّن يثق فيه ليخفّف عنه وطأة الوحدة، ويشارك معه فرحاته الصغيرة كبيرة الأحلام، لكنّه في الوقت ذاته يحمل خوفاً عميقاً من الخذلان.
ليست الخيانة حدثاً عابراً، بل هي لحظة مركّبة من خيبة الثقة، ومفاجأة الروح بما لم يكن في الحسبان. فهي تأتي غالباً من مكان كان يظنّه المرء مقدّساً، من قلب منحته الحرية بلا شروط، ومن عقل أطمأن إلى وعودٍ لم يصدّق أنها يمكن أن تتبدّد.
تتعدّد وجوه الخيانة، وتختلف تفاصيلها، لكنّها جميعها تتشارك عنصراً واحداً: المسافة بين الثقة والواقع.
كلّما كانت الثقة أكبر، كان الانكسار أكثر عمقاً، وحمل المرء ألماً أثقل. وفي هذا الامتداد من الثقة، يُولد الألم الكبير، الألم الذي يترك أثره في الذاكرة، ويعيد تشكيل تصوراتنا عن البشر وعن أنفسنا. المرء، بعد تجربة الخذلان، لا يعود نفسه السابقة، بل يصبح أكثر حذراً، وأكثر قدرة على قراءة نيّات الآخرين، وأحياناً أكثر وحدةً في عالم يبدو، من زاوية الخيبة، أقربَ إلى الفجوة التي خلّفتها الثقة المهدورة.
على الرغم من هذه التجارب، تبقى الثقة قيمةً لا يمكن استبدالها. هي ليست مجرّد فعل من أفعال الحياة، بل هي لغة الروح وجسر يمتدّ بين القلوب، مهما عُرض لهذا الجسر من الانكسار. فالثقة، حتى حين تؤدّي إلى خيبة، تعلمنا شيئاً عميقاً عن طبيعة البشر وعن طبيعتنا نحن؛ عن هشاشتنا، وعن شجاعتنا، وعن قدرتنا على البقاء رغم التجارب المؤلمة. تلك الدروس، مهما كانت مرارتها، تمنحنا فرصة إعادة اكتشاف أنفسنا، وفرصة إعادة بناء علاقتنا بالعالم حولنا.
الخيانة في جوهرها ليست مجرّد فعل ضدّ شخص، بل هي فعل ضدّ فكرة أسمى، ضدّ تصوّرنا عن الأمن النفسي وعن الامتداد البشري الذي اعتدناه. لذلك، يبدو الألم أكثر كثافةً حين يأتي من قلب كان يعرفنا، ويعرف تفاصيلنا الصغيرة، ويقرأ فينا ما لا نجرؤ نحن على قوله. كل خيبة من هذا النوع تصبح ذكرى مضاءة بالحزن، لكنّها أيضاً تصبح مرجعاً لا يمكن تجاهله لتقدير قيمة الثقة، ولإدراك هشاشتها.
ربّما يكون الحلّ في موازنة الثقة، ليس بحجبها أو تقليصها، بل بفهم أنها ليست امتداداً مطلقاً للوجود، بل هبة قابلة للتقدير، تستحقّ الحذر والمراقبة. المرء الذي يفهم هذا الفارق يعيش بعينَين مفتوحتَين، يرى الآخرين كما هم، لا كما يتمنّى أن يكونوا، ويمنح قلبه ما يستحق، ويحميه من الانكسار غير الضروري. ومع ذلك، يظل القلب شفافاً، يرفض أن يصبح صخرةً قاسيةً أمام الجميع، لأنه يعرف أن في كل قلب هناك ما يستحقّ الثقة، وأن العلاقات الإنسانية، مهما كانت محفوفةً بالمخاطر، تبقى نسيجاً حيوياً لا غنى عنه في حياتنا.
تجربة الثقة بمواجهة الخيانة ليست مجرّد سلسلة أحداث، بل هي رحلة اكتشاف للذات وللآخر، رحلة تعلمنا أن نعطي بلا شروط، ولكن أيضاً أن نحمي ما نمنحه. إنها حكاية مستمرّة، لا تنتهي بخيبة واحدة، بل تمتدّ لتعلّمنا الانفتاح بحذر، والحذر بانفتاح، لتصبح الثقة فعلاً واعياً، لا مجرّد نزوة عابرة. فالثقة، في النهاية هي مرآة الرحمة والجرأة الإنسانية، وهي الاختبار الحقيقي لما نملك من قوة داخلية تسمح لنا بأن نحبّ ونعطي، حتى حين نعلم أن الطريق قد يحمل لنا ألماً لا يمكن تجنبه.