ماذا تريد بيروت وماذا تريد دمشق؟

كاتب وصحافي لبناني، محاضر في الإعلام وسياسات الشرق الأوسط، أصدر وأشرف على إصدار عدة كتب.
أحمد الشرع (يمين) ونواف سلام في دمشق (14/4/2025 المكتب الإعلامي لرئيس وزراء لبنان)
ذهب الوفد الوزاري اللبناني برئاسة نوّاف سلام، مثقلاً بالأوزان والأحمال إلى دمشق في 14 إبريل/ نيسان الجاري، واستناخت جعبته تحت أحجام الملفّات والتعقيدات التي تُبهِظ العلاقات بين لبنان وسورية منذ استقلالهما في الأربعينيّات.
طرق اللبنانيون في دمشق أبواب الحدود وأمنها وترسيمها، وأمالوا أنظارهم نحو البحر حيث حدود الماء غير مرسّمة كحدود البرّ، وسلّطوا الأبصار على وزر النازحين السوريين في لبنان، وتطلّعوا إلى المجلس السوري اللبناني الأعلى، المشكّل باتفاق بين بيروت ودمشق عام 1991، راغبين في إلغائه وإبطال معاهدة الأخوّة والتنسيق والتعاون، و40 اتفاقية بموجبه تبدأ من التنسيق الأمني ولا تنتهي بالتعاون السياحي، وهي اتفاقيات امتدّ توقيعها واحدة بعد أخرى من 1991 إلى 2010، أي إلى ما قبل شعرة زمنية من الانفجار السوري الداخلي.
في المجال الأمني، وكما بات متداولاً في أحاديث بيروت، طرح اللبنانيون موضوعات عتيقة عنوانها معرفة مصيرالمسجونين اللبنانيين في سجون النظام السابق، وكذلك الاطّلاع على ملفّات سورية مرتبطة بتفجيرات واغتيالات وقعت في لبنان منذ 2004، وما تلاها. وفي مقابل هذا وذاك، كانت الإجابة السورية على السؤال اللبناني: ماذا عن رموز النظام السابق وأقطابه في لبنان؟
الإجابات القاطعة عن الأسئلة الأمنية ستبقى حائرةً وتائهةً، فلا بيروت جاهزة للاستجابة للمطلب الدمشقيّ، ولا دمشق لديها القابلية لتلبية المُبتغى البيروتيّ من دون مغانم وأثمان
أغلب الظنّ أن الإجابات القاطعة عن تلك الأسئلة الأمنية ستبقى حائرةً وتائهةً في فضاء المجهول، فلا بيروت على جاهزية للاستجابة للمطلب الدمشقيّ لألف سبب وسبب، منها عدم إقرارها بوجود أقطاب (وأركان) سورية خطيرة في لبنان، ولا دمشق لديها القابلية لتلبية المُبتغى البيروتيّ من دون مغانم وأثمان، هذا إذا كان لدى الإدارة السورية الجديدة محفوظات موروثة من عهد مضى وانقضى. وما يصحّ على وعورة ذاك المسلك الأمني يصحّ على غيره من المسالك، فإشكالية الحدود، على سبيل المثال، لا تتصدّر أوّلية الحُكم الجديد في سورية إلا من باب الأمن، فضبط الحدود وما يوازيه من رقابة مشدّدة، يختصر الإلحاح السوري، وتقابله لجاجة لبنانية في هذا الجانب، فيلتقي الساكنان عند هذا الحدّ، ثمّ يفترقان حين تُطرح مسألة الترسيم على مائدة البحث. وحيال ذلك، اللبنانيون يستعجلون والسوريون يستأخرون، وبصورة يقف الطرفان عندها، فلا يُدرك الأوائل الاستئخار السوري ولا يفطن الأواخر للاستعجال اللبناني، ما يرجّح أن تبقى هذه المسألة عالقة إلى أمد غير منظور، إلّا إذا تدخّل المحسنون، ومن يسير في دربهم ويتبعهم بإحسان.
في جدول الأعمال اللبناني ما يشير إلى الاستعانة بفرنسا وخرائطها الانتدابية بشأن الحدود اللبنانية ـ السورية، وفي زيارة الرئيس جوزاف عون باريس أخيراً (28/3/2025) قيل إنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعهّد أمام نظيره الزائر بتزويده بالخرائط الفرنسية التي تُعين لبنان وسورية على ترسيم حدودهما، بما فيها مزارع شبعا المحتلّة، إذ يؤكّد اللبنانيون تابعيتها لهم، فيما الالتباس والغموض التقليديان يحيطان بالموقف السوري. وعلى ما نُقل عن ماكرون فالمَزارعُ لبنانية الهُويَّة، وعند باريس الخبر اليقين في خرائط مرسومة منذ عام 1861، وحتى إعلان دولة لبنان الكبير في سبتمبر/ أيلول 1920.
وإلى إشكالية حدود البرّ، تأتي إشكالية حدود البحر، وتلك أيضاً من التعقيدات التي تأمل بيروت حلّاً لها وجلاءً سريعاً، بينما تستمهل دمشقُ الانخراط في منعرجاتها ومنعطفاتها إلى حين تظهير حدودها البحرية مع تركيا، وإلى أوان تفكيك الإشكالية البحرية ذاتها بين تركيا وقبرص. وقد كانت المعضلة الأخيرة مجال نقاش على بساط البحث بين السوريين والقبارصة، حين زار وزير الخارجية القبرصية كوستانتينوس كومبوس دمشق في فبراير/ شباط 2025.
إضافةً إلى ما تقدّم، يطرح اللبنانيون مصير المجلس السوري اللبناني الأعلى، ومنتجاته المتراوحة بين معاهدة الأخوة، والأربعين اتفاقية، كما سلف القول، ولم يعد مستوراً ولا مخفياً أن العهد الجديد في لبنان طلب من الحُكم الجديد في سورية إلغاء المجلس والمعاهدة، فاللبنانيون الجدد لا يحبّذونهما، والسوريون الجدد لا يعطون جواباً، وعلى الأرجح أن تبقى هذه القضية عالقةً حتى يتدخّل مصلحو ذات البين من أعيان العرب والتُرك، ولا أحد يدري إذا كان للأعيان منفعة في تدخّل كذاك، أو أن تجنح بيروت ودمشق نحو تعديل البنود الواردة فيهما أو تطويرها، أو أن كلّ واحدة منهما تمضي في سبيلها. وفي بيروت من يردّد أنّ الانسحاب من "المجلس" وملحقاته يقتضي تصويتاً في مجلس النواب، ويجب أن يكون هذا التصويت من العواجل، وإزاء هذه الدعوة ثمّة من يردّ على التسرّع بالقول إنّ القضايا المتنازَع عليها بين الجيران والأشقاء تفترض حلولُها الابتعادَ عن العجلة وإثارة البلبلة.
الالتباس والغموض، يحيطان بالموقف السوري من تابعية مزارع شبعا المحتلّة
وإذا كانت القضايا سابقة الذكر، فيها ما يمكن تقديمه أو تأخيره وتأجيله، على رأي القابضين على صوغ السياسات في لبنان، فأعباء النزوح السوري باتت منهكةً للواقع اللبناني، وإذ تجتمع الأضداد اللبنانية على خطّ واحد حيال مشقّة النزوح ووطأته الثقيلة، فإثارة هذه الشجون والشؤون في دمشق لم تجد ما يرطّب قلوب اللبنانيين ويبرّدها، ما يفضي إلى استنتاج أنّ هذه القضية ستستمرّ سؤالاً مفتوحاً في كتاب العلاقات بين دمشق وبيروت، ومثلها الودائع المالية السورية في المصارف اللبنانية. وعلى ذلك، يطغى سؤال واحد ووحيد: من أين يمكن البدء في إيجاد حلول للتراكمات الفاصلة بين أقرب شعبَين عربيَين؟ وما العقدة الأولى القابلة للتفكيك قبل غيرها؟
في خاتمة القول، قد يكون مهمّاً (إلى درجة التفاؤل المفرط) استدعاء خلاصة بحثية قدّمتْها مؤسّسة ألكسندر جيب للدولة اللبنانية، وأصدرتها وزارة الاقتصاد الوطني كتاباً ضخماً بعنوان "التطوّر الاقتصادي في لبنان" عام 1948، وانتهت إلى أن خبراء المؤسّسة الاستشارية الإنكليزية، وفي معرض دراستهم للاقتصاد اللبناني اضطرّوا إلى دراسة الاقتصاد السوري، واستقرّوا على قناعة فحواها أنّه لا يمكن النهوض بالاقتصاد اللبناني إذا لم يترافق مع نهوض الاقتصاد السوري، ولا يمكن للأخير أن ينهض إذا لم يتواكب مع الاقتصاد اللبناني.. وفي ذلك فلينظر الناظرون.


كاتب وصحافي لبناني، محاضر في الإعلام وسياسات الشرق الأوسط، أصدر وأشرف على إصدار عدة كتب.