"ماريا" العصيّة على التشخيص

04 فبراير 2025
+ الخط -

لست أعرف من يمكن لها أن تحمل على كتفيها مهمّة تجسيد شخصية "الديفا" الأشهر في العالم، مغنّية الأوبرا الأميركية اليونانية ماريا كالاس، من دون أن تُشعِر المشاهد بأن ثمّة ما ينقص بعد، أو ثمّة ما يستحيل القبض عليه؟ فمن بإمكانها أن تتكفّل برفع أوزان التراجيديا الإغريقية بكامل أبعادها، مع ثقل الحُبّ المستحيل غير القادر على تسليم مصيره كاملاً إلى معشوقه، ووجع انكسار الكبرياء والغيرة القاتلة، وثقل موهبة خالصة استثنائية ونادرة تسحق كاهل صاحبها، بعد أن يبلغ الكمال، بل ما بعده، ووزر مراهقة بائسة وسمتها الحرب بقدر ما طبعها الفقر والقسوة، وشقاء الوحدة والنهاية المرجوة، وقد نُزِع من الروح كلّ ما أُغدِق عليها من أوسمة ونياشين؟ هل حقّا ثمّة من تقدر على تجسيد هذا كلّه في شخصية واحدة، تؤدّى هكذا ببساطة على الشاشة؟
هذه أسئلة ستُطرَح عليك في أثناء مشاهدة فيلم "ماريا"، للمخرج بابلو لارين، الذي سبق وأخرج عملين آخرَين مشابهَين عن سِيَر شخصيات نسائية آسرة، وسمت حكاياتُها القرن العشرين، "جاكي" (2016)، زوجة الراحلَين الرئيس الأميركي كينيدي والثري اليوناني أرسطو أوناسيس، و"سبينسر" (2012)، وفيه يتناول شخصية الليدي ديانا عند طلاقها من الأمير تشارلز. وكما في فيلمَيه المذكورَين، يختار لارين اللحظات المفصلية في سير شخصياته النسائية، ليتمكّن ربّما من تأطير عمله، إذ من تراه قادر على رواية حياة تدوم سنوات طوال، بمرّها وحلوها، مقاوماً التبسيط والإيجاز والقفز بين مراحل زمنية مختلفة لصنع قماشة متماسكة وصادقة. هكذا يختار لارين الأيام السبعة، التي سبقت وفاة ماريا كالاس في منزلها في باريس (1977)، وهو المكان حيث عزلت نفسها بصحبة أخلص الناس إليها، برونا، مساعدتها المنزلية، وهي أشبه بالأم والأخت والصديقة والطبّاخة، وفيرّوتشيو، كبير الخدم وهو بمثابة الأب والأخ والصديق والسكرتير والحارس الشخصي، كما تُعرِّف هي إليهما.
تُفرط "ماريا" في تناول حبوب منوّمة مهدّئة (دواء ماندراكس)، تقول إنها تساعدها، على الرغم من آثار جانبية تجعلها تهذي وترى أموراً غير موجودة، ومن بينها حضور صحافي تلفزيوني يريد أن يجري معها مقابلةً، يتّضح أن اسمه هو الآخر "ماندراكس"، مقابلات تستعيد خلالها "ماريا" اللحظات الفاصلة في حياتها، في حين تحضر جلسات خاصّة مع قائد أوركسترا لمعرفة ما إذا كان بإمكانها الأداء من جديد. ومن بين اللحظات الأساسية التي تستحضرها في مقابلاتها الوهمية، لقاؤها برجل الأعمال اليوناني أرسطو أوناسيس، الذي راح يحوم حولها، وكانت متزوِّجةً من مينيغيني، ورفضت أن تقدّمه إليها عام 1957، إلى أن وقعت في حُبّه، وتركت زوجها من أجله، ولكنّها غادرته، لأنه ضيَّق عليها وكان يريدها أن تترك الغناء، فما كان منه إلا أن هجرها وتزوّج من جاكلين كينيدي. تقول له "ماريا"، وهي تزوره في فراش الموت، وهي لحظة من أفضل لحظات أداء أنجلينا جولي: "لم أُجرَح في حبي لك، وإنما هي كبريائي التي جُرِحت"، فيبوح لها بأنه لم يُحبّ غيرها، وأنها كانت الأولى في قلبه أبداً، وهو ما ترويه في مشاهد سابقة، حين تعلن أنه يزورها في فراشها كلّ ليلة، وذلك بعد وفاته بسنتَين (1975). أيضاً، تستعيد "ماريا" سنيّ مراهقتها خلال الحرب العالمية الثانية، هي المولودة في أميركا، وقرّرت والدتها، وهي في الثالثة عشرة من عمرها، أن تعود بها وبأختها إلى اليونان، حيث كانت تعرضهما على الضبّاط الإيطاليين والألمان في مقابل المال، وتجبرهما على الغناء لهم. بعد إصرار (وإلحاح) كبير خدمها، تقبل "ماريا" أخيراً مقابلة الدكتور فونتينبلو، الذي سيكشف لها أن صحّتها تسوء بسرعة، منبّهاً إلى أنها لن تكون قادرةً على الغناء. بعد ذلك، تحضر "ماريا" جلسةً أخيرةً مع قائد الأوركسترا، فيتضح لها بالفعل أن صوتها لم يعُد كما هو، وأن مستقبلها الفنّي انتهى إلى غير رجعة. ينتهي الفيلم بـ"ماريا" في شقّتها، وقد خرج مساعداها للتبضّع، تؤدّي أداءً أخيراً بصوتها البلّوري الملائكي، قبالة نافذة مفتوحة، والناس في الشارع قد توقّفوا للإصغاء، قبل أن تسقط أرضاً بسكتة قلبية.
الفيلم لائق، إذا صحّ التعبير، وأداء أنجلينا جولي في القسم الثاني مؤثّر بشدّة، وهي الأدرى والأقرب إلى النهايات الحزينة التي تنتزع منك غصّةً في الحلق ودمعة في العين، لكنّك ستشعر رغم حسن أدائها، بأنّ ثمّة ما لا يستطيع كائنٌ من كان، أن يقبض عليه، وهو الذي كان وراء صناعة أسطورة تدعى كالاس، ويتجلّى في لحظات الذروة الفنّية، التي بلغتها أداءً على مسرح لاسكالا، ويستعيدها الفيلم.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"