من يصنع الدولة في سورية؟
إذا عُدنا قليلاً إلى الثورة السورية، تلك التي أعلن الرئيس أحمد الشرع انتهاء مرحلتها، فإن تأمّل بنيتها الأولى يكشف أنها وُلدت داخل هياكل قمع لم تنهَرْ، بل استمرّت خلفيةً عامّةً للتطوّرات الميدانية والسياسية. كان العنف البيئة الحاكمة التي أفرزت أولى أشكال التنظيم، ولم يلبث أن تحوّل إلى مرجعية إدارة، أكثر منه ردّة فعل مؤقّت. ومع تراجع قبضة المركز، تمدّدت شبكات القوة في الأطراف، وملأت الفراغ بأنظمة أمر واقع لا تعترف سوى بشرعية السيطرة. كان يُفترض أن يشكّل سقوط النظام لحظةً لإعادة بناء المفاهيم على قاعدةٍ مدنيةٍ جامعة، لكن الميراث العنيف الذي حكم العلاقة بين السلطة والمجتمع وجد له أوصياء في الضفة المقابلة. ظهرت تشكيلاتٌ جديدةٌ أعادت إنتاج منطق الغلبة، مع استبدال الشعارات فقط. وهنا، وُلد خطر ما يمكن تسميتها "الثورية العالقة"؛ تلك التي لم تدرك أن اللحظة ما عادت لحظة رفع السلاح (مجازياً أو واقعياً)، بل لحظة بناء قانون يحكم الجميع ويمنع انبعاث الطغيان والاستبداد من أيّ جهة كانت.
إن لم يتحوّل انتصار الثورة السورية سلوكاً قانونياً منضبطاً، فسوف يصبح غطاءً لمرحلة عسكرية ممتدّة، تُفرغ الدولة من مضمونها، وتُعيد صوغ المؤسّسات في مقاس العقائد المنتصرة وفقاً لمفهوم "الفصائلية". ولهذا، تكشف ازدواجية المعايير التي يمارسها بعض من نادوا بالحرية، حين يصمتون أمام انتهاكات موثّقة، حدود هذا الخطاب. لا تُقاس الثورة بشعارها فقط، بل أيضاً بقدرتها على الانتقال من منطق المقاومة إلى منطق التعاقد والعمل الفعلي، ومن ردّة الفعل إلى بناء مشترك على أرضية الحقوق. اليوم، ما زالت النفوس المُحمّلة بإرث الكراهية تتجوّل بيننا، وقد تغذّت من جديد بمياه الهُويَّات المغلقة. بعض المناطق تُدار بحمولة انتقامية، تتنفّس الإقصاء وتقاوم فكرة الوطن المشترك. هنا، تخرج الثورة من معناها، وتتحوّل حالةَ نفي متبادل، تتآكل فيها المواطنة، ويطول مقام السوريين في سرديات الهزيمة.
وما نشأ حينذاك من تشكيلاتٍ مسلّحةٍ وانقسامات جغرافية متجذّرة، لم يكن سوى نتيجة مباشرة لغياب مرجعية مدنية جامعة، وانهيار الحياة السياسية، وصعود أيديولوجيا دينية تحوّلت (في ظلّ قمع نظام الأسد) ردّة فعل تعبوي، لكنّها ابتعدت شيئاً فشيئاً من نبل الدين خلاصاً إنسانياً مشتركاً، لتتماهى مع منطق الفصيل وتدخل الميدان بوصفها القوة القائدة. وهكذا، أُقحِم الدين في صراعات السيطرة، بدل أن يكون رافعةً للعدالة الجامعة، وضاعت رسالته في زحمة البنادق. ومنذ اللحظة التي أصبح فيها السلاح لغة وجود، لا وسيلة دفاع، بدا أن الشرعية تُنتزَع ولا تُمنح، وأن من يفرض الأمر الواقع يمتلك حقّ التكلّم باسم المكان من دون أن يستأذنه أحد.
لا تقاس الثورة بشعارها فقط، بل بقدرتها على الانتقال من منطق المقاومة إلى منطق التعاقد والعمل الفعلي
أمّا اليوم، وبعد سقوط السلطة المركزية المتمثّلة بنظام الأسد، نشهد ولادات فردية تشير إلى محاولة إعادة تموضع العنف داخل هياكل جديدة. في دمشق، تحديداً على أطرافها المهملة، يتزايد حضور رجال أمن سابقين عادوا من خدمة النظام، ليستأنفوا أدوارهم عبر بوابة الحكومة الانتقالية. بعضهم أطلق لحيته وتبنّى خطاب الثورة، لكنّه يمارس الوظائف ذاتها: مراقبة، وتهديد، وضبط سلوك المجتمع بقوة العادة لا بقوة القانون. لم تعد الحاجة قائمةً إلى جهاز مركزي، وحده الفراغ يكفي لتبرير التحكّم، والذريعة حاضرة: "ضبط الانفلات" أو "مواجهة الطابور الخامس". هنا، ربّما نشعر أن الأجهزة الأمنية فقدت دورها مؤسّساتٍ لحفظ كرامة الناس، وقد اخترقها الحرس القديم من بين الشعارات، ويتخفّى العنف خلف مرونة جديدة للسلطة. اللافت أن هذا التحوّل يجري بانقلاب على انتصار الثورة من داخلها، بأدواتها، وبغطاء من بعض "اللاثوريين" الذين وجدوا في الفوضى فرصةً للارتداد إلى أنماط السيطرة الأولى، بلا عبء الدولة، ولا سقف شرعياً يقيّدهم.
في السويداء مثلاً، تتشكّل سلطاتٌ محلّيةٌ على نمط الجماعات المغلقة، تتحالف مع القوى الاجتماعية لإدارة الأمن، وتُعيد تعريف السياسة سلاحاً دفاعياً ضدّ الداخل والخارج معاً. ما يُقدَّم أنموذجاً لامركزياً، ينزلق عملياً إلى نمط حكم مسلّح يُعيد إنتاج العسكرتارية في موقع مختلف، تحت لافتات مجتمعية لا تقلّ ضيقاً عن أجهزة القمع السابقة. في الحالتَين، تبدو الدولة ظلّاً مقلقاً يظهر حين يغيب القانون، ويتجسّد حين تفقد السياسة معناها. وما يُرى تحرّراً من النظام يتحوّل سريعاً (عند أول اختبار) إلى إعادة إنتاج للبنية ذاتها، موزّعةً بين فاعلين جدد. ولكن بمنطق قديم، أكثر وقاحةً، وأقلّ مساءلةً.
يكمن الخطر في أدوات القمع، والتسليم بها ضمن شعارات "الواقعية السياسية" أو "المرحلة الانتقالية"
وهكذا، لا يُطلب من أحد تقديم مشروع سياسي، يكفي أن يُحسن السيطرة على الميدان. لا حاجة إلى تعريف القانون، طالما يمكن تعريف "الاستقرار" وفقاً لتوازنات القوة. المهم هو الإمساك، لا التنظيم. المهم تبرير الضرورة، لا بناء دولةٍ تليق بالتضحيات السورية الأليمة، وهذا بالتحديد لبّ البراغماتية السلطوية التي تحكم أغلب مناطق النفوذ اليوم: إدارة يومية بلا أفق، أمن محلّي بلا مساءلة، وشرعية تُفهم بوصفها بقاءً لا تفويضاً. لا أحد يتورّط في إعلان مشروع سلطوي، لكن الجميع يدير سلطته وكأنّها باقية، وكأن الثورة باتت مجرّد محطّة تمكّن، لا أفق تغيير. هذه البراغماتية، وإن لم تعلن عداءها فكرة الدولة، فإنها تنسفها في الجوهر، تُقصي القانون، وتُفرغ الثورة من معناها التأسيسي. الثورة التي أرادت إعادة تعريف السلطة باتت تُدار اليوم بمنطق بسيط: من يُحسن الإمساك بالأرض يُحسن تمثيل الناس. لا انتخابات، لا محاسبة، لا آليات تعاقد، بل أعراف ميدانية تُفرَض بقوة الحاجة والخوف، ويتكرّس منطق القوة سقفاً أخلاقياً.
ومن هذا المنطق، تولّدت ممارساتٌ لم تعد استثنائية: طرد نشطاء من جلسات محلّية بدعوى أنهم "ليسوا من أهل الساحة"، تهديد صحافيين بعبارات مثل "من لا يحمل البندقية لا يملك الكلام"، واستدعاء الجملة الشهيرة للنظام: "لو كنّا في زمن الأسد لما تجرّأت على الانتقاد". وهنا، لا يبدو الطغيان قد هُزم فعلاً، بل بدّل وجهه. تسلّل إلى جسم الثورة، واستقرّ في اللغة والسلوك والعقل. أصبح بعض "الثوريين" و"اللاثوريين" (على حدّ سواء) شركاء غير مباشرين في إعادة إنتاج الخوف، من دون الحاجة إلى مؤسّسات، أو حتى إلى مرآة.
ما نشهده سلطوية مرنة، تُمارَس تحت غطاء التكنوقراط، أو الدفاع المحلّي، أو "الشرعية الثورية" التي لم تعد قابلةً للنقاش، بل تُسلّم كما لو كانت حقيقةً سابقةً على السياسة. في هذه البنية، يُختزل المجتمع إلى أدوات تعبئة، بدل أن يكون أفراده شركاءَ في القرار، وتُدار العلاقة مع الناس بمنطق التفاوض على البقاء، لا المشاركة في المصير. ولا تكتمل هذه الصورة من دون الحديث عن تفكّك المعنى الأيديولوجي نفسه، فالأفكار (قومية ودينية وليبرالية) التي طُرحت لتؤسّس مشروعاً وطنياً فشلت في إنتاج تصوّر للسلطة، وتحوّلت أقنعةً تُستخدم في صراعات النفوذ. القومية اختُزلت في لافتات، والدين أُقحم في المسارات العسكرية والتعبوية، والليبرالية غدت وسيلةً للتنصّل من أيّ التزام جماعي وأخلاقي.
الموجود فعلياً شكل من الحصار المركّب، طغيان يتجدّد في صورة مرنة، وثورة تتآكل حين تُكرّر خطابها القديم
لعلّنا نذكر ما حدث في ساحة المرجة بدمشق، حيث تعرّض اعتصام سلمي لهجوم من عناصر محسوبين على الحكومة. لم يكن الخلاف حول مسار المرحلة الانتقالية أو العدالة المنشودة، بل انصبّ على من يملك حقّ التعبير عن الغضب، ومن يُمنح شرعية تمثيله. ومثله ما جرى قبل أيام أمام مبنى مجلس الشعب في حي الصالحية (في دمشق)، حيث رفع المعتصمون لافتةً تقول: "دم السوري على السوري حرام". أزعجت هذه العبارة بعض "الحماة الجدد"، فكان الردّ بالضرب والإهانة. فأين الدولة؟
بسلوكات كهذه، تخرج العسكرتارية من جلبابها القديم لتلبس عباءة الهُويَّات الدفاعية، التي تتنازع تمثيل الألم بدل تجاوزه. ومع هذا الانقسام، لا يعود السؤال في سورية: كيف ستُبنى الدولة؟ بل: لماذا لم تولد السياسة أصلاً؟... المشهد يشبه منطقة رمادية واسعة: غياب لاستبداد صريح يمكن مقاومته، وانعدام لمشروع سياسي واضح يُبنى عليه. الموجود فعلياً هو شكل من الحصار المركّب، طغيان يتجدّد في صورة مرنة، وثورة تتآكل حين تُكرّر خطابها القديم.
لم يعد الخطر في أدوات القمع فقط، إنما في التسليم بها أمراً واقعاً مؤقّتاً، ضمن شعارات مثل "الواقعية السياسية" أو "المرحلة الانتقالية". وكأن الكرامة السياسية يمكن تأجيلها، والمجتمع يعاد تشكيله على مراحل، بانتظار ديمقراطية منتظرة لا أحد يعرف متى تأتي. لن تكون هناك ثورة ناجزة، ولا دولة ممكنة، ما لم يُكسر منطق العسكرتارية فكرياً قبل أن يُواجَه ميدانياً، وما لم يتحوّل السؤال من: من يسيطر؟ إلى سؤال أكثر جذرية: من يصنع الدولة؟