موقف إدارة ترامب من اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة وسياساتها المتوقّعة نحو فلسطين

23 يناير 2025

الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مبنى الكابيتول في واشنطن (20/1/2025 فرانس برس)

+ الخط -

نجحت جهود الوساطة التي قادتها دولة قطر بالتعاون مع جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأميركية، بعد عدوان إسرائيلي وحشي ومدمّر على قطاع غزّة استمر أكثر من 15 شهراً، في التوصّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل، على أساس الخطة التي كان طرحها الرئيس الأميركي جو بايدن أواخر أيار/ مايو 2024، وأقرّها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع. وقد دخل الاتفاق حيز التنفيذ، في 19 كانون الثاني/ يناير 2025، أي قبل يوم من مغادرة بايدن البيت الأبيض، وتنصيب دونالد ترامب رئيساً، الذي يزعم إن له الفضل في إبرام الاتفاق. أما تطبيق الاتفاق خلال المرحلة المقبلة فيحظى باهتمام كبير، خاصة إذا أخذنا في الحسبان مقاربة ترامب للقضية الفلسطينية. 

اتفاق بايدن أم ترامب؟ 

تشير تصريحات فريقَي ترامب وبايدن إلى أن الأيام الأخيرة التي سبقت إعلان التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة شهدت تقاسماً للأدوار بين مبعوث بايدن، بريت ماكغورك، ومبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف. ففي حين بقي ماكغورك في الدوحة ليتابع تفاصيل المفاوضات غير المباشرة بين الوفدَين الفلسطيني والإسرائيلي، كان ويتكوف يتجوّل في المنطقة، وعقد لقاء حاسماً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تل أبيب، انضم إليه ماكغورك هاتفيّاً، للدفع نحو إبرام الصفقة. ورغم الجدل في واشنطن بشأن صاحب الدور الأهم في عقد الاتفاق (بايدن أم ترامب)، فيمكن الاتفاق على مسائل، أهمها:

1. الإطار العام للاتفاق هو نفسه الذي طرحه بايدن أواخر أيار/ مايو 2024، والذي قال حينها إنه يمثل مقترحًا لنتنياهو، الذي سارع إلى التنصّل منه بعد أن قبلته حركة حماس.

2. تدخّل ترامب كان عاملًا محفزًا للإسراع في إنجاز الاتفاق بعد أن عجزت إدارة بايدن عن ذلك، طوال ثمانية أشهر تقريباً. ويرى بعضهم أنّ هذا التدخّل جرى بطريقتين حاسمتين من خلال:

  1. ‌أ. تهديد ترامب مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2024 بأن الجميع في الشرق الأوسط سيدفعون الثمن إذا لم يتم الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزّة قبل أن ينصَّب رئيساً. ثمّ جدّد وعيده ذاك، في 7 كانون الثاني/ يناير 2025، قائلًا إذا لم يجر إطلاق سراح المحتجزين في غزّة فإنّ "جحيماً سوف يندلع في الشرق الأوسط". وأضاف، إنّ "هذا لن يكون جيدًا لأيّ أحد". ويرى المراقبون في واشنطن أن تهديداته أخيراً غيّرت الديناميات الإسرائيلية الداخلية، ودفعت نتنياهو إلى الرضوخ إلى الضغوط الأميركية، إذ لم يكن وعيده الثاني موجَّهاً إلى "حماس" بل إلى نتنياهو، وأنّ ترامب لم يكن ليفعل أكثر مما فعل بايدن للإضرار ب"حماس" من خلال دعمه إسرائيل، 15 شهراً. ويرى ستيف بانون، كبير مستشاري ترامب سابقاً وأحد المقرّبين منه، إنّ التهديد "لم يكن تحذيراً لحماس، لقد كان تحذيراً لنتنياهو". ويتفق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت مع هذا الرأي، معتبراً أنّ موافقة نتنياهو على صفقةٍ رفضها من قبل تنبع من "خوفه من ترامب".

لا ينبغي أن يغيِّب دور ترامب في إنجاز اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة حقيقةَ تحيّزه الصارخ لإسرائيل

  1. ‌ب. انخراط فريق ترامب انخراطاً مباشراً في الأيام الأخيرة من المفاوضات قبل الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، وتحديداً عبر مبعوثه ويتكوف. وتشير مصادر إسرائيلية وأميركية إلى أنه اتصل بمسؤولي مكتب نتنياهو يوم الجمعة، 10 كانون الثاني/ يناير، وأخبرهم بأنه سيصل إلى تل أبيب في اليوم التالي للقاء نتنياهو، فاعتذروا متذرّعين بعطلة يوم السبت المقدس عند اليهود، وأصرّ ويتكوف (وهو مطوّر عقاري يهودي صديق لترامب) على الحضور ومقابلته يوم السبت، مستخدماً أسلوباً فظًّاً. وجرى اللقاء، فعلاً، في اليوم التالي، وبدأت المفاوضات تشهد تقدّماً ملحوظاً، بعد أن مارس عليه ضغوطاً كبيرة. ودفع ذلك ديمقراطيين ناقمين على مقاربة إدارة بايدن المنحازة إلى إسرائيل والضعيفة أمام نتنياهو إلى القول إن بايدن وفريقه كانوا شديدي الضعف أو غير أكفاء، أو أنهم كانوا منحازين إلى إسرائيل إلى درجة حدّت من قدرتهم على الضغط عليها. وكانت إدارة بايدن تتذرّع دائمًا بأنّ "حماس" هي "العقبة الرئيسة" في عدم التوصل إلى اتفاق، رغم أن تسريباتٍ لمسؤولين أميركيين وإسرائيليين كانت تؤكّد أن نتنياهو هو العقبة الأساسية؛ إذ كان يتعمّد إفساد أيّ اتفاق عبر تقديم مطالب جديدة، وأن إدارة بايدن كانت تتساهل معه لتخفي عجزها أمامه، وخشية أن تخسر أصوات اليهود الأميركيين قبل الانتخابات وتبرّعاتهم السياسية. وكانت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" الإسرائيلية ذكرت أنّ اجتماعاً واحداً مع ويتكوف كان له تأثيرٌ أكبر في نتنياهو من اجتماعاتٍ عقدها معه مبعوثو بايدن على مدى عام. واللافت أن ترامب نشر ذلك على منصّته "تروث سوشيال"Truth Social. ويبدو أنه كان حريصاً على أن يرسل إلى نتنياهو رسائل تحذيرية ضمنية، إذ إنه، بعد يوم من وعيده بجحيم يندلع في الشرق الأوسط، في 8 كانون الثاني/ يناير، شارك مقطع فيديو عبر المنصّة ذاتها، يصف فيه أستاذٌ جامعي أميركي نتنياهو بأوصاف قذعة ويتّهمه بأنه "مهووس" بمحاولة دفع الولايات المتحدة إلى خوض حرب ضد إيران، مضيفاً: "لقد أدخلَنا (نتنياهو) في حروب لا نهاية لها، وبسبب نفوذه في السياسة الأميركية، حصل على ما يريد". ويشير خبراء إلى أن رسائل ترامب الضمنية إلى نتنياهو تدلّ على العلاقة المعقدة بينهما على مرِّ السنين، فقد قد قدّم له دعماً غير مسبوق خلال رئاسته الأولى (2017-2021)، من ذلك الاعتراف بسيادة إسرائيل على القدس ونقل السفارة الأميركية إليها، والاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، ورعاية عملية التطبيع العربية معها عبر "الاتفاقات الإبراهيمية". إلا أن العلاقة ساءت بينهما بعد أن هنّأ نتنياهو بايدن بفوزه في انتخابات عام 2020، التي لم يعترف ترامب بخسارتها. ومع أن هذه العلاقة بدأت تشهد تحسّناً بعد لقائهما في منتجع ترامب في مارا لاغو في فلوريدا، في تموز/ يوليو 2024، فإنها لن تعود كما كانت سابقاً. 

3. اعتقاد نتنياهو أنه حقق إنجازات جوهرية على مدى الخمسة عشر شهراً الماضية من الحرب، وحاجته إلى تحويلها إلى رأس مال سياسي واستراتيجي في علاقته مع الولايات المتحدة. 

4. ضغوط المؤسّستَين العسكرية والأمنية الإسرائيليتَين، فضلاً عن ضغوط أهالي الأسرى الإسرائيليين، وكذلك الضغوط الدولية المتصاعدة على إسرائيل ونتنياهو.

5. تغيّر قواعد اللعبة إسرائيليّاً، إذ يبدو أن رغبة نتنياهو في إرضاء ترامب كانت أكبر من خوفه من حلفائه المتطرّفين في الحكومة، وخصوصاً وزيرَي المالية والأمن القومي، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. وتقول مصادر إسرائيلية إن نتنياهو وافق على المقترح الأميركي بعد أن ضمن أن حزب سموتريتش "الصهيونية الدينية" لن ينسحب من الحكومة، ومن ثم، ضمان عدم سقوطها، حتى لو انسحب حزب بن غفير "القوة اليهودية"، وهو ما حصل فعلاً. ويبدو أن بعض مكوّنات اليمين الإسرائيلي المتطرّف ينتظر مكافأة في الضفة الغربية مع إدارة ترامب، وكذلك في الملف النووي الإيراني، ولا شك في أن ترامب سيكون منحازًا إليه بخصوص مستقبل قطاع غزّة وسيطرة "حماس" عليه. 

حسابات ترامب

لا ينبغي أن يغيِّب دور ترامب في إنجاز الاتفاق حقيقةَ تحيّزه الصارخ لإسرائيل وحساباته التي تتمثّل بما يلي:

(1): نرجسية شخصية ترامب وإيمانه بقدرته على تحقيق ما يعجز عنه غيره، بما في ذلك رؤساء أميركيون سبقوه. من هذا المنطلق، يمكن فهم تغريدة له عبر منصّة "تروث سوشيال"، في 15 كانون الثاني/ يناير، تقول إن "اتفاق وقف إطلاق النار الملحمي هذا لم يكن ليحدث إلا نتيجةً لانتصارنا التاريخي في تشرين الثاني/ نوفمبر"، حيث أشار العالم أجمع إلى "أن إدارتي ستسعى إلى السلام والتفاوض على صفقاتٍ لضمان سلامة جميع الأميركيين وحلفائنا". 

(2): حسابات متعلقة بمقاربة ترامب الكلّية للسياسة الخارجية، التي تروم أن تبتعد الولايات المتحدة عن الصراعات التي لا تخصّ أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية بالدرجة الأولى. ومع أنه لا يمانع في دعم الحلفاء، فإن ذلك يتمّ على أساس "التعاقدية" والمصالح المتبادلة، التي ينبغي أن يكون لبلاده مكاسب واضحة وعظيمة فيها. 

تؤكد أدلة عديدة أن إدارة ترامب ستكون منحازة إلى إسرائيل

(3): إصرار ترامب على إنجاز اتفاق وقف إطلاق النار قبل أن يُنصَّب رئيساً، منطلقاً من أنه لا يريد أن يتعامل مع تركة سلفه، على نحوٍ سيؤثر في أولوياته على الصعيدَين الداخلي والخارجي. 

(4): يرتبط بما سبق ما يراه وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، أن ترامب، الذي كان التقاه من قبل، يريد "تغيير قواعد اللعبة" في الشرق الأوسط من خلال دفع التطبيع بين السعودية وإسرائيل في إطار "الاتفاقات الإبراهيمية".

خاتمة

تؤكد أدلة عديدة أن إدارة ترامب ستكون منحازة إلى إسرائيل. ففي اليوم الأول لرئاسته الجديدة، 20 كانون الثاني/ يناير 2025، أصدر قراراً تنفيذيّاً ألغى فيه العقوبات التي كانت إدارة بايدن فرضتها على جماعاتٍ وأفرادٍ من المستوطنين اليهود المتطرّفين المتهمين بالتورّط في أعمال عنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة. وأفاد البيت الأبيض بأن ترامب ألغى الأمر التنفيذي 14115 الصادر في 1 شباط/ فبراير 2024، الذي سمح بفرض عقوباتٍ معيّنة "على الأشخاص الذين يقوّضون السلام والأمن والاستقرار في الضفة الغربية". وكان بايدن فرض عقوبات على عديدٍ من الأفراد والكيانات الاستيطانية الإسرائيلية، بما في ذلك تجميد أصولهم في الولايات المتحدة ومنع الأميركيين من التعامل معهم. ويُعتبر قرار ترامب التنفيذي هذا امتداداً لنهجه في إدارته الأولى تجاه المستوطنات، إذ إنها تخلّت عام 2019 عن الموقف الأميركي التقليدي الذي يرى المستوطنات غير قانونية، قبل أن يعيد بايدن العمل بهذا الموقف. ومن المتوقع أيضًا أن يرفع ترامب تجميد إدارة سابقه لتوريد قنابل تزن ألفي رطل لإسرائيل، في الأيام الأولى من رئاسته.

وبالنسبة إلى مستقبل قطاع غزّة، يؤكد مايك والتز، مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، أن "حماس" لن تعود إلى حكم قطاع غزّة، محذّراً قائلاً "إذا خرقت حماس هذا الاتفاق وتراجعت، فسندعم إسرائيل في القيام بما يتعين عليها القيام به"، ومشيراً إلى أن من سيتولى السيطرة على القطاع في المستقبل "ربما قوة أمنية مدعومة من العرب، وربما عبر ترتيب فلسطيني". وفيما يتعلّق بالضفة الغربية، لا يمكن التقليل من خطورة رئاسة ترامب عليها، ليس لناحية رفع الحظر عن الاستيطان فيها فحسب، بل كذلك من خلال ضمِّ حوالى 60% من مساحتها، كما اقترح في خطته "السلام من أجل الازدهار: رؤية لتحسين حياة الشعبَين الفلسطيني والإسرائيلي"، أو كما عُرفت بـ "صفقة القرن"، أواخر كانون الثاني/ يناير 2020. وقد قال ترامب، في آب/ أغسطس 2024، بعد نحو أسبوعين من لقائه نتنياهو في ولاية فلوريدا، إن مساحة إسرائيل صغيرة جدًا على الخريطة، وينبغي التفكير في كيفية توسيعها. وحتى قطاع غزّة لا يبدو في مأمنٍ من مخطّطات الضمّ الإسرائيلية، خاصة أن ترامب يكرّر حديثه عن سواحل غزّة المذهلة وموقعها الرائع، والتي ستكون "أفضل من موناكو"، إن أعيد بناؤها.