هذا الانتصارُ العربي لإسرائيل
تتزايد الضغوط على حركة حماس في الإعلام والسوشيال ميديا العربيين، أمام ضراوة القصف الإسرائيلي، وارتفاع الكلفة الإنسانية الباهظة في قطاع غزّة، وانهيار اتفاق وقف إطلاق النار، وعودة مخطّط تهجير الفلسطينيين إلى الواجهة. قد تكون هناك وجاهةٌ في مواقفَ ينتقد أصحابُها ما يعدّونه تصلباً، أكثر من اللازم، في موقف الحركة، على اعتبار أنها مطالبةٌ بإعادة تقييم الوقائع على الأرض، في ظل الاختلال المريع في ميزان القوى، والخذلانِ الإقليمي، وتواطؤ الدول الغربية الكبرى مع دولة الاحتلال، ومن ثَمَّ، تقديم تنازلات من شأنها أن توقف حمام الدم في غزّة، وتحُدَّ، ولو قليلاً، من معاناة الفلسطينيين الذين يواجهون كارثة إنسانية غير مسبوقة، وهو ما يفرض عليها (حماس) إيجاد ''توازنٍ ما'' بين خيار المقاومة والحد من التداعيات المأساوية لحرب الإبادة والتطهير العرقي في غزّة. وعلى ما قد يكون من وجاهةٍ في هذه الآراء، إلا أن هناك سردية عربية، أقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنها تتبنّى جملة وتفصيلاً السرديتين الإسرائيلية والغربية وتروّجهما بكل صفاقة، بحيث لا تُحمّل "حماس''، والمقاومة، فقط مسؤوليةَ انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، بل أيضاً مسؤولية استباحة قطاع غزّة وتدميره، وإبادة وجرح وتشريد مئات آلاف من سكانه، هذا من دون إتيان أصحابها على أن دولة الاحتلال هي التي رفضت الانتقال إلى المرحلة الثانية واستكمالِ المرحلتين الثانية والثالثة من الاتفاق الذي سبق أن وافقت عليه.
يتجاهل أصحاب هذه السردية، الذين يتوزعون على مواقع السلطة والنخب والاقتصاد والإعلام والتواصل الاجتماعي، الواقع السائد قبل 7 أكتوبر (2023)، بما يعفي دولة الاحتلال، ضمنياً، من مسؤولياتها عن سياسات التوسّع والاستيطان والتهويد والحصار والتقتيل وهدم البيوت، ويُقدمُها، أمام العالم، في صورة الدولة الديمقراطية المسالمة التي تعرّضت لهجوم ''إرهابي مروّع'' نفّذه تنظيم إسلامي متطرّف موالٍ لإيران، وخلّف ضحايا مدنيين إسرائيليين.
قد يبدو تقديمُ إسرائيل بهذه الصورة في الإعلام الغربي ''منطقياً''، بالنظر إلى النفوذ السياسي والإعلامي للوبي الصهيوني، لكنَّ تبنّيه عربياً والترافعَ عنه بشراسةٍ يصيبان الوعي العربي في مقتلٍ؛ فلم تعد القضيةُ الفلسطينية، بعد حرب غزّة، مجرّد صراع إقليمي، بقدر ما أضحت عنواناً لسقوط المجتمع الدولي. لقد أسقطت الحرب آخرَ أوراق التوت عن القوى الغربية (الاستعمارية) والمؤسّسات والمنظمات ومراكز القوة والقرار الدولية، وفضحت أدوارها في التآمر على شعبٍ أعزل تُرك وحيداً لمصيره المحتوم. ومن ثَمَّ، يضفي تسفيه المقاومة الفلسطينية، في هذا التوقيت، الشرعية على مشروع اليمين الصهيوني المتطرّف، ليس في فلسطين فقط، بل في عموم الإقليم. وهو مشروع تخطّى بكثيرٍ ما كانت تتطلع دولةُ الاحتلال إلى تحقيقه في الإقليم قبل "7 أكتوبر". بمعنى أن الحرب '' لم تعد تمهد لتحالفٍ في محور عربي- إسرائيلي، بل إلى هيمنة إسرائيلية على المشرق العربي''، بتعبير عزمي بشارة (البيئة الدولية الجديدة.. فرض منطقة نفوذ إسرائيلية على المشرق العربي، العربي الجديد، 4/4/2025).
من السذاجة الاعتقاد أن هزيمة المقاومة، وتدمير سلاحها، وإجبار قادتها على مغادرة غزة، وتهجير الفلسطينيين، ذلك كله سيعيد علاقات القوة بين دولة الاحتلال ودول الإقليم إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر؛ إسرائيل تخوض حرباً وجودية وتاريخية من منظور اليمين الصهيوني المتطرف، وانتصارُها على المقاومة واجتثاثها من الوعْي الفلسطيني والعربي سيكون بمثابة ''حرب الاستقلال'' الحقيقية، لأنها سترسّخها قوة إقليمية كبرى من دون منازع. فلن تكون مشكلتها في تدبير الوجود الفلسطيني، بقدر ما ستنصب على توسيع حدودها على حساب البلدان العربية المجاورة. وما استباحتُها الأراضي السورية واللبنانية إلا عيّنة من نزعتها التوسعية الجديدة التي ستأتي على الأخضر واليابس في الإقليم.
إن الانتصار للوعي الإسرائيلي، والفرح لتراجع أداء المقاومة، واستعجال هزيمتها، لا يبرئ فقط ذمة دولة الاحتلال مما اقترفته من جرائم وحشية بحق الشعب الفلسطيني، بل يمنحها ''شيكاً على بياض'' عربياً كي تعيد تشكيل دول المنطقة ومجتمعاتها.