هل نتعاطف مع بوعلام صنصال؟
قد يُرى السؤال أعلاه نافلاً، فبديهيٌّ أن يُتعاطَفَ مع كل كاتبٍ أو صاحب رأيٍ يتعرّض للسجن والاحتجاز والاعتقال. والكاتب الجزائري الفرنسي، بوعلام صنصال، قال لمنصّةٍ فرنسيةٍ إن أراضي في غرب الجزائر مقتطعةٌ من المغرب، فرأت السلطات الجزائرية في هذا الكلام ما يُجيز لها معاقبة صاحبه، بمنطوق مادّةٍ في قانون العقوبات في البلاد، فلمّا هبط في مطار العاصمة قادماً من باريس، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، جرى حبسُه احتياطيّاً، بانتظار محاكمته. ثم اندلع ضجيجٌ من تصريحات مسؤولين كبارٍ في الجزائر وفرنسا، ضاعفت من التأزّم في العلاقات بين البلدين، كان منها وصف الرئيس الفرنسي ماكرون صنصال "مناضلاً من أجل الحرية محتجزاً بطريقة تعسّفية"، وقوله إن الجزائر تُسيء إلى سمعتها بعدم الإفراج عنه. ومنها نعتُ الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبّون، الكاتب المحبوس بأنه "محتالٌ" و"خائنٌ" و"لا نعرف أباه"، بعثتْه فرنسا "ليقول لنا إن نصف الجزائر ملك دولةٍ أخرى". ...
وهنا، بعيداً عن الحدّة السياسية العالية في تقاذف الكلام الثقيل بين المستويات السياسية والإعلامية والبرلمانية في باريس والجزائر، في هذا الخصوص، وبعيداً عن أي انحيازٍ مسبقٍ لأيٍّ من المنطقيْن، ما الذي يلزم أن يكون عليه موقف المثقف والكاتب من مسألة كهذه، تخصّ كاتباً، أعلن رأياً، وجدت فيه بلادُ الكاتب مسّاً بوحدتها الترابية، فأعملت نصّاً قانونياً بشأنه؟ هل نصطفّ مع الكاتب، لمجرّد صفته هذه، له أن يقول ما يقول، صدوراً عن إيمانٍ مبدئيٍّ بحرّية التعبير والرأي، وبلا سقوفٍ، أم نرى أيّ كاتبٍ بلا عُلويةٍ خاصّةٍ له، شأنَه شأن أي مواطنٍ في بلده، يُحاسَب على أي خروجٍ منه على القانون، قولاً أو فعلاً؟ هل يُفترض فينا، نحن العرب أن نحترس، في شأن قضايا الأوطان وسيادتها، فلا نتعامل بشأنها كما الأميركيون والأوروبيون، فقد يُجاز بين هؤلاء وأولئك أن يتبنّى صاحبُ رأيٍ نزوعاً انفصالياً (أو توسّعياً)، أو يشرّق ويغرّب في كلامٍ عن تابعيّة هذه الأرض إلى هذه الدولة أو تلك، فلا أظنّ أن كَندياً لو أيّد أن تصير بلادُه ولاية أميركية، على ما يطلُب ترامب، سيُحاكَم، فيما قد يُساق إلى المحاكمة، ويودَع الحبس، لبنانيٌّ ناصر كلام السوري الركيك، هيثم المالح، عن وجوب تابعيّة لبنان لسورية. وبذلك، لم يكن بوعلام صنصال فرنسياً لمّا قال ما قال، بل جزائريٌّ شكّك بحدود بلده.
أخذاً بهذا المقتضى، لا غضاضة في المطالبة بمحاكمةٍ لصاحب "شارع داروين"، تتوفّرُ على كل شروط العدالة واستحقاقاتها، يترافع فيها محاموه للدفاع عنه، فلعلّ الرجل لم يتجاوز في الذي أفضى به إلى ما جرى تأويلُه دعوةً إلى ضمّ أراضٍ جزائريةٍ إلى المغرب. وفي البال أن ثمّةَ قطيعةً في العلاقات شديدة السوء بين البلدين الجاريْن، وفي البال أيضاً أن من غير المُستحسن أن يُنظَر إلى أصلٍ مغربيٍّ للكاتب المُحتجز. وقد أفاد الرئيس تبّون، في تصريحٍ لصحيفة لوبنيون الفرنسية، نُشر أول من أمس، بأن صنصال يتلقّى رعاية طبّية (عولج في مستشفى أخيراً ثم أعيد إلى السجن)، ويمكنه الاتصال المنتظم مع زوجته وابنته، وسيُحاكَم ضمن المهل القضائية المأخوذ بها في البلاد. ولا نظنّنا، نحن الذين نعتنق الدفاع عن الحرّيات العامة، ملزمين بأن ننتصر لكل صاحب كلامٍ نافرٍ يستخفُّ بسيادة أي دولةٍ عربيةٍ على كامل أراضيها. ويحسُن في هذا الموضع، أن نتذكّر أن صنصال كان قد أصدر روايةً سمّاها "قرية ألمانية"، (أظنّها غير مترجمةٍ إلى العربية) تسيء إلى الثورة الجزائرية، عندما أقام صلةً متخيّلةً بين قادة جبهة التحرير مع ضابط سابق في الجيش الألماني النازي، ولم يتحرّك القضاء الجزائري لمحاسبته على هذا، ولا على رميه ثوّاراً جزائريين بالإرهاب.
ليس يغيبُ عن أي نقاش، بشأن هذا الكاتب شديد الحماس للغة الفرنسية (دعا إلى أن تكون وحدَها في الجزائر)، أنه نصيرٌ لليمين العنصري المتطرّف في فرنسا، وأخذتْه مناهضته الإسلاميين الذين يخاف على فرنسا منهم إلى تعبيراتٍ تلفّظ بها تجاوز فيها على الدين الإسلامي. وأن منابر الإعلام الفرنسي المعادي للمهاجرين والمسلمين تحتفي به. وليس يُنسى أنه صديقٌ لإسرائيل التي أفضى بأرطالٍ من التعاطف معها بعد "7 أكتوبر"، ولم يُعثَر منه على أي شعورٍ إنسانيٍّ تجاه الغزّيين، وهو الذي شارك قبل سنوات باحتفالات إسرائيل بتأسيسها، في واحدةٍ من زياراته لها، تزامناً مع إحياء الفلسطينيين ذكرى النكبة...