استمع إلى الملخص
- يعاني الأطفال من آثار نفسية عميقة مثل القلق والاكتئاب، ويفقدون الشعور بالأمان، كما يُحرمون من التعليم بسبب تدمير المدارس، مما يؤثر على تطورهم ومستقبلهم.
- يؤكد الخبراء على ضرورة التدخل العاجل لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي وضمان حقوق الأطفال الأساسية في التعليم والحياة الكريمة.
لا يستيقظ أطفال مدينة غزة على محاولات ترميم ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ نحو عامين، بل على لملمة ما تبقّى من أدوات ومستلزمات للنزوح مجدداً نحو مناطق الوسط والجنوب بعد توسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية في مدينتهم التي بات يطلق عليها وصف "منطقة قتال خطيرة".
واختزلت كلمات القرار العسكري الإسرائيلي التي تطالب الأهالي بالمغادرة فوراً مصير مدينة كاملة، مع تصعيد ميداني مرعب، لم يترك مجالاً للرفض، ولا وقتاً للبكاء، حتى أن الشعور بالخوف لم يكن له متّسع، فيما يواجه الأطفال تحديداً مصيراً أكثر قسوة، بعدما عاشوا شهوراً طويلة من الخوف والحرمان والتشرد وغياب الأفق.
على مخارج المدينة المكتظة، تشاهد نازحين يحملون ما تيسر من أمتعة، ونساء يحملن أطفالهن الصغار في محاولة لبث بعض الأمان في نفوسهم، وأطفال أكبر سناً بعضهم صامت كمن يفهم الواقع، وبعضهم يتساءل عن سبب النزوح الجديد، وترك المنطقة السكنية التي كبروا فيها، بينما تظل مشكلات من لا يملكون القدرة على النزوح أكبر، إذ إن مصيرهم مجهول.
طريق النزوح جنوباً طويل، ومرهق، ومحفوف بالدموع والأسئلة، وعلى جنباته مشاهد لا يمكن تجاهلها، وتبرز خلال المسير قصص لا يمكن نسيانها. طفلة تمشي حافية حاملة دميتها الممزقة، تنظر إلى الخلف نحو المدينة التي تغادرها، وكأنها تتوسّلها ألا تسقط بيد جيش الاحتلال. وطفل يبكي، ليس لأنه خائف أو متعب، بل لأنه نسي حقيبته المدرسية، والتي كانت تضم صورة له مع زملاء الصف. وصغير يسأل شقيقه الأكبر: هل سنعود؟
ويقدر عدد أطفال مدينة غزة قبل النزوح الجديد بنحو ربع مليون طفل، وهؤلاء ليس لديهم من خيارات سوى مرافقة ذويهم نحو الجنوب، والصغار لا وقت لدى أحد منهم كي يحدثهم عن السبب بلغة يفهمونها، فالجميع تقرر اقتلاعهم من مدينتهم كما تُقتلع الأشجار من جذورها، وبينما يحاول الكبار معرفة إلى أين يذهبون، تُسرق طفولة الصغار، ليس فقط بالقصف، بل بالتهجير القسري تحت تهديد الموت.
في ظل هذا الواقع المأساوي، يتحول الأطفال إلى معيلين بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ يُكلَّف الكثير منهم بتعبئة المياه من محطات التوزيع التي غالباً ما تكون بعيدة، ويقفون لساعات طويلة في طوابير التكايا الخيرية، أو يلاحقون شاحنات المساعدات الإنسانية، في ظل حرارة خانقة، وخطر متواصل، رغم أن هذه مهام لا ينبغي أن يتحملها طفل.
نزحت الفلسطينية سارة عودة (42 سنة) من شمال غزة إلى مدينة دير البلح (وسط)، لكنها لم تتمكن من النوم خشية أن تستيقظ طفلتها الصغيرة سجى (9 سنوات)، إذ إن الصغيرة عادة ما تستيقظ ليلاً صارخة نتيجة الكوابيس، فيما تعاني نهاراً من خوف مرضي نتيجة تواصل القصف، وعدم الاستقرار بفعل النزوح المتكرر.
ومن داخل إحدى المدارس التي تحوّلت إلى مركز إيواء، تقول عودة لـ "العربي الجديد": "الواقع المعيشي مأساوي على مختلف الفئات العمرية، وفي مقدّمِها الأطفال. نتنقل منذ الأيام الأولى للحرب من مكان إلى مكان، ونزحنا قسراً عدة مرات، لكني هذه المرة، رأيت الخوف في عيون أطفالي بطريقة لم أشاهدها من قبل. طفلتي سجى لم تعد تلعب، ولا تتحدث كثيراً، وأراقبها من دون القدرة على فعل شيء. لا نملك بيتاً، ولا نستطيع توفير الأمان، ولا العلاج، ولا حتى دورة مياه نظيفة. عايشين من قلة الموت، وننتظره في أي لحظة لأن أحداً لا يستطيع وقف الإجرام الإسرائيلي".
ويدفع الأطفال ثمناً باهظاً يفوق قدرتهم على الاحتمال في ظل تجدد النزوح القسري، فالحرب لا تسلبهم طفولتهم فحسب، بل تُلقي بظلال قاتمة على حاضرهم ومستقبلهم، وسط بيئة غير صحية، وبنية تحتية مدمرة، وحرمان مستمر من أبسط الحقوق الأساسية.
تعيش الفلسطينية تهاني اشتيوي (35 سنة) مع أسرتها المكونة من ثلاثة أطفال، في خيمة قماشية بوسط قطاع غزة، وتقول لـ "العربي الجديد": "ابني الأصغر خالد (11 سنة) صار يكرر عليّ السؤال لماذا لم يعد لدينا منزل؟ وأحيانا يسأل وين نروح؟ ليش بيصير فينا هيك؟ ويتساءل أيضاً متى سيذهب إلى المدرسة مجدداً؟ هو محروم من التعليم للعام الثالث على التوالي، إذ بدأت الحرب وهو في بداية حياته التعليمية، وحاولت متابعة دراسته إلكترونياً، لكن النزوح المتكرر، وانقطاع الإنترنت أفشل كل جهودي. نقضي الأيام في البحث عن المياه والطعام والأمان، وأشعر بأنني فشلت بصفتي أماً، لكن الظروف أقوى مني".
أما الفلسطينية فاطمة أبو العيس (31 سنة)، وهي أرملة شهيد قتلته قذيفة إسرائيلية دمرت منزلهم وتركت جثمانه تحت الركام، فقد نزحت برفقة أطفالها وعائلة زوجها نحو مواصي خانيونس، وتقول لـ"العربي الجديد"، وهي تمسح دموعها، إن طفلتها ليان (5 سنوات)، لا تتوقف عن السؤال عن والدها، وتكرار أنها تشعر بالخوف لعدم وجوده. وتضيف: "كل صوت مرتفع يرعب ابنتي، وتشعر بالخوف من كل شيء، بينما نعاني من الجوع، ومن الأمراض، ومن الذكريات المؤلمة التي تلاحقنا. طفولة ابنتي ضاعت، وأنا عاجزة عن توفير الأمان لها".
ويعيش عشرات آلاف الأطفال في مخيمات نزوح مؤقتة أو مدارس إيواء متهالكة تحولت إلى ملاجئ مكتظة، وأغلبها تفتقر إلى المياه النظيفة، ودورات المياه الملائمة، ووسائل التهوية، إضافة إلى انتشار القمامة ومخاطر الأمراض الجلدية والتنفسية.
تتحدث الفلسطينية سهاد نصر (39 سنة) عن مخاوف متواصلة على أطفالها بفعل تواصل الحرب، وتجدد الإجبار على النزوح من مدينة غزة، إذ لم تتمكن بعد من مغادرة المدينة بسبب الكلفة المرتفعة للنقل، وعدم وجود مكان في الجنوب يمكن لزوجها نصب خيمة فيه.
وتبين نصر لـ "العربي الجديد" أنها تمر بظروف قاسية داخل خيمة النزوح القريبة من جامعة الأزهر غربي مدينة غزة، وتقول: "لم نتمكن من النزوح، وأشعر برعب حقيقي على أطفالي، فأصوات الانفجارات لا تهدأ، ونشعر بأن النار بدأت تحاصرنا من كل الاتجاهات، حتى بتنا على يقين بأننا لن ننجو هذه المرة. أي صوت قوي، حتى لو كان بعيداً، يجعلني أركض بحثاً عن أولادي، ونحن في حالة ترقب مستمرة، فلا نوم عميق، ولا راحة، وأطفالي يستيقظون في الليل يبكون، وحالة الهلع لا تفارقهم".
وتشير إلى أنه رغم صعوبة النزوح، وترك المدينة بكل ما فيها من ذكريات، إلا أنها لم تعد قادرة على التوجه إلى الجنوب بسبب استنزاف الحرب كل مدخرات أسرتها، الأمر الذي يزيد قلقها على أسرتها التي باتت تواجه الموت في كل لحظة، وأن هذا واقع آلاف الأمهات في غزة، فالخوف والعجز باتا أسلوب حياة قسرياً في ظل الصمت الدولي.
وتشكل هذه البيئة تهديداً مباشراً لصحة الأطفال الجسدية والنفسية بالتزامن مع غياب الرعاية الطبية الملائمة، علاوة على دخول العام الدراسي الثالث على التوالي من دون تمكن الأطفال من الالتحاق بصفوفهم نتيجة الدمار الذي طاول المدارس، أو تحول العديد منها إلى مراكز إيواء، ما يعني ضياع عام دراسي جديد، وتراكم الفجوة المعرفية والاجتماعية والنفسية، وتأثيرها على تطور مدار الأطفال.
ويبين المرشد التربوي والاجتماعي إسماعيل ضاهر أن "الطفل الذي ينشأ في بيئة حرب مستمرة، ويتعرض للنزوح المتكرر، والحرمان المزمن، هو طفل مُهدد بالقلق المزمن، والاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة". ويؤكد لـ "العربي الجديد"، أنه "في ظل تواصل التهديدات الإسرائيلية، ومع غياب الدعم النفسي الكافي تتعمق الجراح في داخل الطفل، لتنعكس سلوكياً على المدى البعيد، سواء من خلال إظهار العدوانية، أو اللجوء إلى الانطواء، أو قرار الانفصال عن الواقع، وإنقاذ جيل كامل من الضياع يتطلب تدخلاً عاجلاً، حقوقياً وإنسانياً، بما يتجاوز الخطابات ليصل إلى الأفعال".
ويضيف ضاهر: "أطفال غزة لا يعيشون مجرد أزمة، بل يواجهون مأساة مركبة تتجدد يوماً بعد يوم، واستمرار الحرب، وغياب بيئة آمنة وصحية، إضافة إلى الانقطاع عن التعليم، تشكل خرقاً صارخاً لحقوق الطفل التي كفلتها جميع الاتفاقيات الدولية".