استمع إلى الملخص
- تتجلى معاناة العائدين في قصص مثل محمد نبهان وأبو محمد العطاونة، الذين يواجهون نقصًا حادًا في المياه والخدمات الأساسية، ويعملون بلا كلل لإزالة الركام وتهيئة منازلهم للسكن.
- رغم الدمار، يظل الأمل في العودة قائماً كما يظهر في قصة الفنان أيمن الحصري ومحمود اليعقوبي، الذين يعملون بجهود ذاتية لإصلاح منازلهم، مؤكدين أن حب الوطن يدفعهم للاستمرار.
تتداخل في شوارع مدينة غزة الأصوات الناتجة من أعمال تنظيف وترميم المنازل التي يقوم بها الأهالي العائدون من وسط القطاع وجنوبه، الذين يشكون عدم توافر المياه، وندرة مستلزمات الصيانة.
تمضي عجلة الحياة في مدينة غزة بين فرحة عودة مئات الآلاف من النازحين إليها من جنوب القطاع من جهة، وتداعيات ما خلفته الحرب من واقع مأساوي سيرافق الأهالي لسنين طويلة، ويفرض عليهم تحديات كبيرة، في ظل مساعي التأقلم مع حجم الدمار.
وفي الأيام الأولى من فتح الطريق إلى الشمال، تمكن نحو 80% من النازحين من العودة، وفق ما أعلنه المكتب الإعلامي الحكومي في غزة. ويتولى غالبية العائدين صيانة منازلهم على نفقتهم الخاصة، رغم انعدام مصادر الدخل، الأمر الذي يثقل كاهلهم.
لا يمكن تجاهل أصوات ارتطام أحجار تُلقى من أسطح المنازل إلى الشوارع، أو أصوات كنس الزجاج، فضلاً عن مشاهد تركيب النايلون بديلاً من الزجاج على نوافذ كل البيوت تقريباً، أو إغلاق فتحات كبيرة في الجدران التي تعرضت للقذائف بوضع شوادر أو قواطع خشبية أو ألواح من "الزينكو".
يحاول أصحاب البيوت تهيئتها للعيش، ولو بالحد الأدنى، وينطبق هذا أيضاً على أصحاب المحال التجارية الذين يحاولون إصلاحها، وإزالة الغبار والركام منها، بينما هناك من لم يجد أي مساحة للحياة في بيته أو البيوت المحيطة بفعل الدمار الكبير، لتكون الخيمة أو مراكز الإيواء خياره الوحيد.
تعرّض منزل محمد نبهان الواقع في حيّ الصفطاوي شمالي مدينة غزة للتدمير الكلي، وعندما نصب خيمة إلى جوار المنزل لم يجد مياه الشرب في المنطقة التي تعرضت جميع المرافق والخدمات فيها للتدمير، ومن بينها شبكة الصرف الصحي. يقول لـ "العربي الجديد": "فقدان البيت ليس هيناً، فقد غادرنا خشية الأحزمة النارية، ولم نستطع إخراج أي من المقتنيات، وبالتالي فقدنا البيت بكل ما فيه، حتى سيارتنا الخاصة دمرت شدة القصف، والآن نبدأ حياتنا من الصفر. العيش في خيمة خيار صعب، لكننا نحاول البقاء أحياء، رغم أنه لا توجد مياه، وكأنك تعيش في صحراء، وهذا يجعلنا غير قادرين على الصمود".
يحاول العائدون إلى مدينة غزة تأهيل البيوت للعيش ومثلهم أصحاب المحال
بأدوات بسيطة، كان أهالي شارع الجلاء في مدينة غزة، يحاولون كنس الغبار وإزالة الركام من الشقق والعمارات السكنية التي تعرضت لأضرار جزئية نتيجة إطلاق الرصاص والقذائف، التي عادوا إليها بعد رحلة نزوح شاقة قادمين من جنوب القطاع، بعد أن عاشوا لأشهر في خيام مهترئة. على أحد الأبنية، يتسلق أحدهم سلماً مصنوعاً من الحبال والأخشاب يتدلى من سطح العمارة نحو الأسفل، وهو يتنقل بين شقة وأخرى رغم خطورة الأمر، محاولاً إصلاح شبكة الصرف الصحي التي تعرضت للتدمير، والتي استغرق عمله فيها أكثر من عشر ساعات متواصلة.
يقف أحد أصحاب البيوت، أبو محمد العطاونة، أمام المدخل، وإلى جانبه كومة من الركام الذي جمعه من داخل الشقق السكنية التي تعرضت لأضرار جزئية، مؤكداً أنه منذ عودته من الجنوب لم يتوقف عن إزالة الركام وتهيئة البيت لسكن العائلة. يقول لـ"العربي الجديد": "لا يوجد زجاج ولا أبواب ولا نوافذ، ولا خزانات ملابس، والبيت محترق، لكن الحمد لله، وجدنا جدراناً وسقفاً تؤوينا. أسعار مستلزمات إصلاح الأضرار باهظة، وتبلغ عدة أضعاف سعرها الطبيعي".
تحمل ذاكرة العطاونة تفاصيل صعبة عن آخر اللحظات له في البيت عندما حاصرتهم قوات الاحتلال، وقد استشهد ابن عمه بداخل البيت، وأصيب هو واثنان من إخوته، ما اضطرهم إلى النزوح إلى الجنوب، وصولاً إلى مخيم النصيرات في الوسط، ثم انتقلوا إلى مدينة رفح جنوباً، وبعدما اجتاحها جيش الاحتلال انتقلوا إلى مواصي خانيونس، قبل أن يعودوا إلى مدينة غزة.
ينظر إلى حركة المركبات والناس أمام بيته، ويؤكد أن هذه الوقفة كانت قبل شهر واحد مستحيلة، أو حلماً بعيد المنال، لكنها أصبحت حقيقة يعيشها. يقول: "العودة إلى البيت هي حياة للإنسان، وكأن روحك ترتد إليك. نحاول التأقلم مع الواقع الجديد الذي خلفته الحرب، فهذا قدر ومكتوب".
نزح الفنان التشكيلي أيمن الحصري مع أمه إلى جنوب القطاع قبل أشهر، ووصلت إليهم هناك صور تظهر تعرّض البيت لأضرار بالغة، لكن رؤية الدمار من كثب كانت مختلفة عن الصور، إذ حركت في داخله ذكرياته داخل كل ركن في البيت، ومع آلام تضرر البيت، يزعجه هدم مرسمه الخاص، وتمزق أغلب اللوحات التي قرر عرض ما تبقى منها في معرض، شاهدةً على الحرب، لكونها خرجت من تحت الركام.
منذ وصوله إلى المنزل، لم يتوقف الحصري عن العمل في إزالة الركام، ويقول لـ "العربي الجديد": "البيت غير صالح للسكن، وإزاء ذلك نعيش في الطابق السفلي، الذي كان في السابق روضة أطفال كنا نديرها. نواصل ترتيب أمور البيت، ومنذ ذلك استعضنا عن سقفه بألواح الصفيح. أمضي يومي كله في توفير المياه، وإزالة الركام، ويجب أن نتأقلم، فقد عشنا نازحين لأشهر في جنوب القطاع، ومررنا بفترات صعبة".
تشكل أزمة المياه عائقاً أمام محاولة الحصري إعادة تأهيل شقته الواقعة بالطابق الرابع، لكنه رغم ذلك لا يخفي سعادته بالعودة إلى البيت. يقول: "صحيح أن البيت مدمر، لكن هناك مكان نعود إليه، فقد وصلنا خلال النزوح إلى مرحلة فقدان الأمل، وكانت العودة حلماً، لكنها أصبحت حقيقة، فالبيت هو الوطن".
إلى جانب ركام بيته الواقع قرب مفترق عبد العال بشارع الجلاء بمدينة غزة، والمكون من ثلاث طبقات سويت بالأرض، أنشأ الفلسطيني عبد المالك أبو خوصة بيتاً صغيراً من ألواح الصفيح لا تزيد مساحته على ثلاثين متراً مربعاً، يعيش فيه مع أخوته منذ قصف بيتهم في 27 يوليو/ تموز 2024.
وشهدت المنطقة استهدافاً متكرراً من جيش الاحتلال، ولم تسلم بيوت الجيران من القصف، وعاشت العائلة في رعب طوال فترة الحرب، لأن بيت الصفيح لا يوفر لها أدنى حماية من الشظايا والقصف. يقول أبو خوصة وهو يجلس على ركام البيت لـ "العربي الجديد": "تعرضنا للقصف بلا سابق إنذار، واستشهدت ابنتي وابني وحفيدي، ومنذ ذلك الحين نعيش في بيت من الصفيح بجوار البيت، ونعاني من البرد القارس. تشعر وكأنك تعيش في الشارع بلا أمن ولا أمان".
يرفض أبو خوصة الرحيل عن المنطقة حتى اضطر إلى العيش في خيمة فوق ركام بيته، ويحاول التكيف مع فقد البيت في واقع مأساوي يعكس حياة التشرد التي يعيشها أصحاب البيوت المدمرة.
وصل محمود اليعقوبي، بمفرده إلى بيته، وأبقى زوجته وأطفاله في جنوب القطاع، محاولاً تهيئة البيت وإصلاح الأضرار قبل أن يحضرهم. يواصل منذ خمسة أيام العمل على إزالة أضرار البيت ورفع الركام، ويقول لـ "العربي الجديد" وهو يقف على كومة ركام خرجت من بيته المكون من طابقين: "وجدت الوضع صعباً، ولا يوجد إمكانية للعيش في البيت بهذا الشكل، لأن هناك قذائف اخترقت الجدران، وأحدثت أضراراً بغرف النوم ودورة المياه والمطبخ، وهي أهم ثلاثة أشياء للعيش، كذلك فإن الدمار في محيط البيت كبير".
يضيف: "بدأت عملية الإصلاح بجهود ذاتية، لكني واجهت مشكلة في عدم وجود المستلزمات الضرورية للصيانة، وتضاعف أسعار المتوافر منها. فمثلاً، كيس الأسمنت كنا نشتريه بسعر 20 شيقل قبل الحرب، بينما اشتريت كيسي إسمنت لإغلاق الفتحات بقيمة 1000 شيقل، وهذا أمر مرهق. استغرقني الأمر خمسة أيام متواصلة حتى يكون أحد طوابق البيت قابلاً للحياة، وحالي أفضل من حال أصحاب البيوت المهدمة بالكامل. لن أستطيع إصلاح الطابق العلوي، لأن الدمار فيه كبير، ويحتاج إلى معدات ثقيلة لإزالة الركام".
ويوضح اليعقوبي: "ما فعلته عملية تهيئة اضطرارية للبيت، شملت فتح طريق للدخول والخروج منه بعد إزالة الركام، لكن هناك أحزمة أسمنتية وأعمدة متدلية من أسطح عمارات سكنية مجاورة، ولم تسقط على الأرض، وهي تشكل خطراً مستمراً على حياة السكان. رغم محاولات التكيف، نواجه مشكلة كبيرة تتعلق بشح المياه، ما يزيد من صعوبة الحياة، إذ دمر جيش الاحتلال البنية التحتية تماماً".
وحول عودته إلى بيته بعد غياب خمسة عشر شهراً، ترتسم الابتسامة على ملامحه، مؤكداً أن "حب الوطن والأرض والبيت شيء مطبوع داخل كل واحد فينا، فمهما ابتعدت عن البيت، فإنك في النهاية تريد أن تعود إليه، ولو تدمر ستبنيه مرة أخرى رغماً عن أنف الاحتلال، خصوصاً بعد حياة النزوح الصعبة التي كنا فيها نعيش في العراء بعيداً عن المكان الذي نشأنا وترعرعنا فيه".