في نقاش بديهيّات

29 ابريل 2025
لوحة لـ عبد عابدي
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه السوريون تحدي تغيير الوعي المتأثر بعلاقات السلطة السابقة بعد سقوط النظام، حيث فقدوا مفاهيم أساسية مثل الحرية وحق الاختلاف، مما أدى إلى خلط بين الحرية والفوضى.

- في ظل تدهور الوضع المعيشي، بدأ السوريون في إصدار أحكام نابعة من غضب وسوء فهم، متجاهلين أن الوعي متغير وأن الحقيقة لا تظهر للجميع في وقت واحد.

- بعد الثامن من ديسمبر 2024، انقسم السوريون بين متوجسين من السلطة الجديدة ومنددين بالعلمانية، مما يتطلب حوارًا مع الذات لتعلم أبجديات الحياة.

بعد سقوط الأسد ومعه الأبد يتابع قطار السوريين رحلته، ولكن من دون تبدّل في المحطّات. إذ لا يعرف أحدٌ وجهته، وهل سيتوقف في محطّة أو هاوية!
اعتقد بعضهم أن حقبة انطوت، بينما كان المتشائمون أكثر حذراً. وبين هذا وذاك، يقف السوري أمام واقع جديد، يتطلب منه قدراً من الوعي، أو بالأحرى تغيير أفق الوعي الذي لوّثته علاقات السلطة والتخوين السابقة، فالعلاقات التي تشكّلت ضمن منظومة ثقافية وسياسية متهالكة لا تؤسّس لمنظومة تعايش سليم. وإذا كان التغيير يحتاج وقتاً، فإن التفكير يحتاج إرادة وقدرة على رؤية حجم الأذى الذي طاول وعيهم.
ومع أنّ الشرخ عميق، إلا أن المؤلم أنهم فقدوا أبسط البديهيات التي تقوم عليها الحياة، كالحريّة وحقّ الاختلاف واحترام النضج. إذ ضاعت الحدود بين الحريّة والفوضى، والتبس عليهم الفرق بين الاختلاف والعداوة. ولم يكن هناك أي تمييز بين النضج كتجدد وحكمة وبين النفاق كانقلاب ومداهنة لسلطة الأقوى. وبدت هذه البديهيات طارئة على فهم السوريين.
وبينما يزداد الوضع المعيشي سوءاً، راحوا يفتحون دفاتر قديمة، إذ ينبش أحدهم في ماضي الآخرين، ليعثر فيه على أحكام لإدانتهم. ولا نتحدّث هنا عن ماضي المجرمين والقتلة، ومن تلوثت أياديهم بالدماء. وليس القصد بالطبع الذين انقلبوا من حال إلى حال، فهذا سياق آخر؛ بل تلك الطريقة المجانيّة في الاتهام، وهي نابعة من غضب وسوء فهم يفسّره انقطاع 54 سنة بينهم، فلطالما شابت علاقاتهم الريبة والحذر في عهدي الأب والابن؛ وإذ كانوا بين موظفٍ وعاملٍ ومدرّس وطبيب وإعلامي، فلكل منهم قصة مع السلطة. وهي ليست حكاية سعيدة بالضرورة، إنها أشبه بالزواج القسري، حيث يعدّ صمت الزوجة رضىً.
يتناسى السوريون أن الوعي متغيّر، وأن الحقيقة لا تظهر للجميع في وقت واحد، ووفق المقاييس التي وضعت للتخوين، سيكون جميع السوريين مُدانين، يعرف الذين عاشوا في حقبتي الأب والابن أن منهم من ساعدته ظروفه على رفض الظلم، وبعضهم آثر السلامة والسكوت على ما للأخيرين من إدانة أخلاقيّة، لكنها لا تصل إلى حدّ تخوين الآخر أو عقابه ونبذه.
وفي السياق، تكشف قضايا كثيرة عن هذا القصور في مجاراة منطق الحياة، كقضية الشاعرة المنقّبة التي تعرّضت لهجوم من شاعرات أخريات، تعرّضن لهجوم من الطرف المضاد لمظهرهن السافر. وتناسى الطرفان أن العلّة ليست في ما نرتديه، بل كيف نفكر وما الذي نفكر فيه؟ وحتى في الحالة الأخيرة الاختلاف طبيعي.
انقسم السوريون بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024. توجّس سوريون من السلطة الجديدة وميولها، وراح هؤلاء المُصابون بالإسلاموفوبيا يبحثون في كل خطوة تخطوها هذه السلطة عن زلل. وفي المقابل، انبرى آخرون للتنديد بالعلمانية وأنصارها، واتهم هؤلاء العلمانيين بالفجور. بينما راح مندفعون في التيار الديني يستغلون فرصة الفوضى لفرض رؤاهم على واقع لم يعد يحتمل الأدلجة في جميع توجهاتها. وتصرّفوا كأنهم دخلوا دار قوم لوط. أو كأن الشعب السوري فاسقٌ ويحتاج من يعلّمه الإيمان، مختزلين الدين في المظهر، نازعين عنه سمْته الحضاريّة وطابعه الإنساني.
وبما أنه لا حرية بدون وعي ولا كرامة إلّا بكليهما، فإن الحالة الغرائزية العامة في الواقع السوري، أبعد ما تكون عن ذلك، إذ يتّخذ الدفاع عن فكرة حتى بين صفوف المثقفين سمة القبائليّة، أو يقعون في ازدواجية المعايير الذي يمكن أن نتفهمه من سياسي تحكمه المصلحة لا من مثقف، فمن دافعوا عن المظلوم يوماً هم أنفسهم الآن يطلقون أحكاماً ظالمة، لأنهم يميلون إلى هذه السلطة لا تلك.
يحتاج السوري اليوم إلى طاولة حوار مع ذاته، وبعد الاتفاق معها على أولى البديهيّات، يجدُر به التوجّه إلى مقاعد الحياة ليتعلم من جديد أبجديات الحياة التي شوّهتها البنادق وشوّشتها الدماء وخطّ عليها الطغيان مبادئه. ربما نحتاج إلى سارتر وروسو سوريين. يكتبان على سبّورتنا ويعلماننا البديهيات التي غابت عنّا، وأولها: أن الدفاع عن حرية الآخر حماية لحرية الذات.
ينسى السوريون دوماً، ويجب تذكيرهم أن الرؤساء والأمراء والقادة يمضون بينما تبقى الشعوب، وهم في غيبوبتهم هذه يؤسّسون لمستقبل أبنائهم قادماً قاتماً لا يقلّ غموضاً عما سبق.

المساهمون