استمع إلى الملخص
- قصص الأمل المحطمة: تعكس قصص مثل أحمد لولو وسامر عليوة وفاطمة بدوي كيف أن الحرب والقيود المفروضة قضت على أحلام الكثيرين، مما جعل حتى أبسط الطموحات تبدو بعيدة المنال.
- الآثار النفسية والاجتماعية: يعاني شباب غزة من "الاحتراق النفسي الجماعي" نتيجة الضغط المزمن، مما يؤدي إلى توتر اجتماعي وعزلة، ويستدعي الحاجة إلى دعم نفسي ومجتمعي عميق.
تغدو الحياة في غزة معركة صامتة بين الإرادة والبؤس وبين الرغبة بالنهوض من تحت الركام والواقع المرير الذي يكبح الآمال والأحلام ويقوّض فرص التعافي.
يمتزج الواقع اليومي في قطاع غزة بمعاناة الحصار الأليم والفقر والبطالة وحرقة ضياع الأمل، بعد عامين من حرب الإبادة الجماعية التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي. تحمل كل زاوية حكاية حلم توقف عند منتصف الطريق، وطموحٍ اصطدم بواقع شديد القسوة، فالشباب الذين كانوا بالأمس يتحدثون عن مشاريعهم الصغيرة، وعن خططهم لمستقبل يليق بهم، صاروا اليوم عالقين بين العجز وانتظار الفرج، وبين الرغبة في الحياة والاستسلام لوطأة الظروف القاهرة.
تحوّلت منازل غزة إلى أكوام من الركام بعد أن كانت تعجّ بالأمنيات، صارت تطلعات أصحابها مجرد مشاريع مؤجلة خلف جدران الحياة، ومجرد أحلام لم تكتمل. فالوضع الاقتصادي المنهك والواقع المعيشي المتردي وانعدام فرص العمل، كلّها عوامل جعلت من أبسط الطموحات رفاهية لا يجرؤ الكثيرون حتّى على التفكير بها، وأطاحت العديدَ من الأمنيات التي باتت ضرباً من ضروب الخيال، مثل امتلاك سيارة متواضعة أو منزل بسيط يؤويهم.
بعد اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حاول بعض الغزاويّين أن يشقوا طريقهم عبر مشاريع صغيرة أو أعمال خاصة تؤمن لقمة العيش، لكنهم اصطدموا بواقع معقد من القيود والحصار ونقص الموارد، خصوصاً أن مدينة غزة خسرت الكثير من طاقاتها وإمكانياتها.
أما السفر بهدف اكتساب المهارات أو سعياً خلف فرصة عمل لائقة، فقد أصبح بدوره حلماً مستعصياً يراود العقول في صمت، ويتبدد وسط الإغلاق التام للمعابر. حتى إنّ التعليم الذي كان نافذة للنجاة، أصبح محاطاً بعقبات مادية ونفسية، فتحول من وسيلة لتنمية المعارف والعلوم والتحرّر نحو فضاء أوسع، إلى عبء إضافي على كاهل العائلات.
كان المواطن الفلسطيني أحمد لولو (36 عاماً) يحلم ببناء شقة صغيرة في منزل أهله، لكن الحرب أرغمته على النزوح ودمرت المنزل وحولته إلى ركام، يوضح أحمد لـ"العربي الجديد"، وهو أب لطفلين، أن الواقع الصعب لم يتوقف عند حدود قصف منزل أهله وضياع آخر حلم بالاستقرار، بل إنه يكمن في ضياع كل مقومات الاستقرار، ويضيف: "النزوح المتكرّر وطول أمد الحرب تسبّبا باستنزاف مدّخراتي التي كنت أخبئها لبناء الشقة، فقد واجهنا مجاعة حقيقية وغلاء جنونياً، ما اضطرني إلى الاستدانة لتوفير القوت اليومي لعائلتي".
من جانبه، كان خرّيج إدارة الأعمال سامر عليوة يطمح إلى افتتاح مشروع صغير لمساعدة الشباب على إتمام مراسم الزواج بالتقسيط، لكنه فُوجئ بالحرب التي قضت على حلمه وأطاحت كلّ معاني الفرح، بعد أن حولت غزة إلى مدينة يخيّم عليها الحزن وألم الفقدان والخراب والموت المحقق، ويخبر "العربي الجديد" أنه منذ تخرجه قبل ستِّ سنوات كان يبيع الأجهزة الكهربائية، وتمكن من جمع مبلغ لافتتاح مشروعه الذي كان سيساند شباب غزة في الزواج، إلّا أن الحرب لم تمنحه الفرصة لتحقيق حلمه. ويتابع سامر: "الحرب دمرت كل شيء، المشروع لم يتحقق، الوقت يمرّ، والحلم يبقى في مكانه، بينما أعمل اليوم لساعات قليلة في محل تجاري. لم أكن أحلم بأن أصبح غنياً، كنت أرغب فقط بالعيش الآمن من دون خوف من الغد".
تبيّن العشرينية فاطمة بدوي، وهي خرّيجة تخصص الهندسة المعمارية، أنها كانت تحلم بتصميم مبانٍ حديثة في غزة، وإعادة إعمارها بروح جديدة، ما دفعها إلى دراسة الهندسة بشغف واندفاع، وإلى سهر الليالي ومتابعة الدروس من أجل التميز. لكن بعد التخرج، اندلعت الحرب وقضت على حلمها، بعد أن دمرت نسبة هائلة من مباني غزة التي كانت تحلم بتطويرها.
بحسرة تروي فاطمة لـ"العربي الجديد"، كيف أن الحرب ومنع دخول مواد البناء إلى القطاع تسبّبا بتوقف المشاريع العمرانية، ناهيك عن إغلاق المكاتب الهندسية وتدميرها، حتى السفر لتحصيل شهادة الماجستير صار حلماً مستحيلاً، بسبب إغلاق المعابر"، وتشير إلى أنها تعمل حالياً عن بُعد في مجال التصميم الهندسي، وهو عمل حرّ بحسب المشاريع، وليس وظيفة دائمة، غير أنها تحاول إعالة أسرتها النازحة ومواجهة قسوة الحياة. وتختم فاطمة بالقول: "قلبي معلّق بغزة التي أحلم يوماً ما في بنائها على طريقتي الخاصة، رغم أنني أدرك تماماً أن حلمي عالقٌ اليوم بين الخراب والانتظار".
حلمت طالبة الدراسات العليا نسرين أبو ريالة بمتابعة دراستها في الخارج، والمشاركة في أبحاث ومؤتمرات عالمية، لكنها لم تتمكن من ذلك بفعل الحرب، كما أنها خسرت منحة للدراسة الجامعية في تركيا، بسبب إغلاق المعبر، وتوضح لـ"العربي الجديد" أنها فقدت الفرصة، وانتهت مهلة المنحة، ما أصابها بحالة إحباط شديد، وتقول: "بعد أن كنتُ أستعد للانطلاق في رحاب الحياة والتقدم العلمي، أشعر اليوم بأنّني داخل قفص كبير اسمه غزة"، وتلفت أبو ريالة إلى أنها تحاول إكمال دراستها عن بعد، لكن بشغف أقل، مضيفة "كلّ شيء هنا صعب، حتى الحلم صار يحتاج إلى تصريح مرور".
ويوضح الاختصاصي النفسي والمعالج السلوكي نهاد الأشقر، أن ما يمر به شباب غزة اليوم هو حالة نفسية مركّبة ناتجة عن الضغط المزمن والحرمان الممتد، إذ يعيشون في بيئة يسودها الخطر والقلق وعدم اليقين، ويؤكد لـ"العربي الجديد" أن الأمل يصبح نادراً حين تبدأ النفس في إنتاج كوابيس واقعية، ليست أثناء النوم فحسب، بل حتى في التفكير واليقظة، ويصبح الحلم بالسفر أو بدء مشروع صغير وكأنه خيال بعيد المنال، ما يخلق صراعاً داخلياً مؤلماً بين "ما أريد" و"ما أستطيع".
ويصف الأشقر الواقع بأنه نوع من "الاحتراق النفسي الجماعي"، وذلك نتيجة تآكل طاقات الأفراد بسبب الإحباط الجمعي، مضيفاً "فقد الكثير من الشباب الإحساس بالجدوى، إذ يشعرون أنّ أي خطوة نحو المستقبل قد تُجهض قبل أن تبدأ، هذه ليست مجرد مشاعر عابرة، بل حالة مرضية جماعية تحتاج إلى دعم نفسي ومجتمعي عميق".
ويشير الأشقر إلى أن حالة الإحباط الجماعي تولد توتراً اجتماعياً، إذ ينسحب الشباب من التواصل، ويعيش الآباء الشعور بالذنب تجاه أبنائهم، ويتابع: "الكوابيس هنا ليست صوراً في النوم فحسب، بل سلوكاً يومياً من الانعزال والغضب وفقدان الثقة، لذلك تبرز الحاجة إلى تحسين الواقع وخلق مساحات آمنة للحوار والدعم النفسي".