استمع إلى الملخص
- وصول حافظ الأسد للسلطة كان نتيجة مؤامرة سرية بدأت خلال الوحدة مع مصر، حيث استغلت لجنة عسكرية الانقسامات داخل الجيش السوري لتنفيذ انقلاب 1963.
- توسعت اللجنة العسكرية بعد الانقلاب لتشمل ضباطًا من طوائف أخرى، لكنها ظلت تحت سيطرة مجموعة متشددة، مما عزز نظرية المؤامرة المذهبية وترسيخ حكم الطائفة.
انهار نظام الأسد خلال عشرة أيام مثل بيت مصنوع من الورق، وفي ليلة واحدة تبخّر من بقي من أعمدة سلطة مطلقة استمرت نصف قرن. وكان من الممكن رؤية حصاد الفترة الأسدية كلها موزّعة على شريط الطريق الدولي الممتدّ من حمص إلى اللاذقية مروراً بطرطوس، عائلات كاملة وضباط هاربون ركبوا أية وسيلة مواصلات، بعد أن بدّلوا ألبستهم ليصلوا إلى قرى الساحل، إذ اعتبر كل هؤلاء أن السياج الذي كان يحميهم قد انهار في لحظة واحدة، وأصبحوا مكشوفين أمام الجميع، وطار في تلك الليلة إحساسٌ كان لديهم بالقوة والقدرة الفائقة، واختلّ شعورٌ زائفٌ بالأمان عاشته الطائفة التي ينتمي إليها الأسد عقوداً.
تنتشر على نحو واسع في الأوساط السورية نظرية تقول إن وصول حافظ الأسد إلى السلطة، وتمكّنه من البقاء في سدّة الحكم 30 عاماً، ثم تمرير الكرسي إلى ابنه من بعده، يرجع إلى مؤامرة سريّة حيكت في زمن الوحدة مع مصر، عندما كان حافظ الأسد يقضي فترة خدمته العسكرية هناك، حيث انخرط في تشكيل اللجنة العسكرية التي اقتصرت على ضبّاط متوسطي الرتبة ينتمون إلى أقليات متنوعة في سورية، كانت تجتمع سرّاً في مصر، ونسّقت العمل العسكري فيما بينها، وظلت محافظة على سرّيتها طوال فترة الوحدة ثم الانفصال، حتى وصول قيادة حزب البعث إلى الحكم عام 1963، وفي اللحظة المناسبة قفزت مجموعة حافظ الأسد ورفاقه إلى السلطة، بعد أن دخل عناصرها من ثغراتٍ عدّة في حكومة الانفصال، واستغلوا بعض ضباط الجيش المتنفذين، حتى استطاعوا اتخاذ مراكز في الصف الأول، ثم تمكّن الأسد من التخلص من رفاق اللجنة العسكرية واحداً تلو الآخر، وأبعد في ما بعد كل من حاول الوقوف في وجهه، ليبقى وحيداً لأطول فترة توفّرها له الحياة.
لا تفصّل نظرية المؤامرة المذهبية كثيراً في آلية التآمر بين أعضاء اللجنة العسكرية أنفسهم الذين تخلصوا بعضهم من بعض
لا تفصّل نظرية المؤامرة المذهبية كثيراً في آلية التآمر بين أعضاء اللجنة العسكرية أنفسهم الذين تخلصوا بعضهم من بعض، ولكنها تصرّ على أن الأمر كان مبيّتاً ومنذ زمن بعيد، وقد مهّد كل أعضاء اللجنة لحدوثه، ولم يكن مفاجئاً أن يظهر حافظ الأسد في السلطة وقد أحكم الخطّة للوصول إلى أبعد مدى، ولم تقتصر الخطّة على تمكين الأسد، بل تعدّت ذلك لوصول الطائفة بأسرها إلى الموقع الأول، وقد تحقق ذلك بالتوريث.
لا تأتي هذه النظرية من الفراغ، فقد تشكّلت بالفعل لجنة من ضبّاط عسكريين سوريين يعملون في مصر في زمن الوحدة، وتحديداً في أواخر عام 1960، وجميع أعضاء هذه اللجنة من الضبّاط المنتمين إلى أقليات مذهبية: محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وعبد الكريم الجندي، وأحمد المير. كان هؤلاء يجتمعون في مصر، ويتناولون أموراً سياسية وعسكرية، ولم تنحلّ اللجنة بعد الانفصال ورجوع جميع الضبّاط السوريين إلى سورية. وبعد عودتهم، جرى تسريح بعضهم من الجيش، وأحيلوا إلى قطاعات مدنية ضمن مجموعة أكبر من ضبّاط الجيش السوري، كما جرى التخلص من بعضهم خلال عهد الانفصال لعدم الثقة بهم. وفي هذه المرحلة، بدأ العمل الجدّي بين أعضاء هذه اللجنة السرّية التي تكثفت اجتماعاتها، واتصلت بضباط آخرين ما زالوا في الخدمة، واستغلّوا ضعف البنية العسكرية في الجيش وانقساماته المتعدّدة، وهشاشة الحكومة وعدم سيطرتها الكاملة على القوات المسلحة، فكان تنفيذ الانقلاب سهلاً نسبياً، بعد أن تحالفت اللجنة مع ضبّاط ناصريين، وضعتهم في الواجهة ونفّذت الانقلاب بواسطتهم. وعند النجاح والتأكد من السيطرة الكاملة، تسلّمت اللجنة المراكز الأولى والمفصلية في الدولة، وبدأت خطّة سريعة للتخلص من كل مَن هو غير بعثي. ويقول أنصار نظرية المؤامرة إياها إن التخلّص كان على أساس طائفي. ربما يصح ذلك، ولكن العامل الحاسم كان أن أمر اللجنة العسكرية بقي طي الكتمان ولا يَعرف عن العلاقة بين أعضاء اللجنة أحد، حتى إنها وصلت إلى الحكم من دون أن يُعرف عنها.
لم يكن تنظيم اللجنة العسكرية بأسمائها المعروفة التنظيم الأول، فقد كان محمّد عمران جزءاً من تنظيم سابق شهد أسماء ضباط آخرين ممن لا يُعتبرون من الأقليات المذهبية
الجيش السوري الذي سقط حينها بسرعةٍ في يد عدد قليل من الضباط العسكريين من قادة الوحدات مع أعضاء اللجنة العسكرية الذين كان ما يزال معظمهم خارج الخدمة، كان في حالة سيئة، بعد التاريخ القصير الذي مرّ به منذ الاستقلال عام 1946 وحتى لحظة الانقلاب، فحتى اليوم الذي سبق حركة البعثيين والقوميين عام 1963، كان الجيش قد شهد تسع حركات ما بين انقلاب ناجح أو فاشل أو محاولات تمرّد وعصيان عسكري، بالإضافة إلى ما تعرّض له من تبديلات خلال الوحدة مع مصر. كان الجيش يستنزف من قواته بعد كل حركةٍ، نجحت أو فشلت، والاستنزاف يأتي على تسريح موجة جديدة من الضباط، أو نقل بعضهم إلى مناطق ثانوية غير مؤثرة. وكان معظم المسرّحين أو المنقولين من العناصر المؤثرة التي ساهمت في بناء مؤسّسة الجيش، ولكن الخوف على السلطة ومحاولة تجنب الانقلاب التالي كانا يجبران القادة على التخلي عن مزيدٍ من العناصر. وهكذا شهدت كل حركة عسكرية موجات تسريح كبيرة أو صغيرة، وحتى في عهد الوحدة، تخلّص جمال عبد الناصر من كثيرين، وكان قد قرأ التاريخ السوري العسكري جيداً، وعرف أن الخطر الأكبر سيأتيه من الجيش. ولذلك عمل على تحييد كثيرين من عناصره بنقلهم إلى وظائف مدنية، أو للعمل في سفارات البلد في الخارج، ولجأ كذلك إلى نقل بعض الضبّاط، وخاصة البعثيين منهم، إلى مصر وتكليفهم بمهام ثانوية، وأغدق عليهم، في الوقت نفسه، على أمل أن ينسوا أو يتخلوا عن أية أفكار انقلابية، كل تلك العوامل جعلت مما بقي من ضباط الجيش مجموعة من المغامرين الطامحين، أو الخائفين من موجة التسريح القادمة، وليحمي الضباط أنفسهم تكتّلوا ضمن جماعات بعضها مناطقي وبعضها الآخر مذهبي، وربما كانت اللجنة العسكرية شكلاً من أشكال الحماية الذاتية المبكّر. لم ينسَ عناصرها فكرة الانقلاب، لكن يبدو أنهم أجلوها فقط، وساعدت الأحداث الجارية والظروف المحيطة بالتقدم خطوة إثر خطوة إلى الأمام، وصولاً إلى هدفهم النهائي باستلام السلطة.
لم يكن تنظيم اللجنة العسكرية بأسمائها المعروفة التنظيم الأول، فقد كان محمّد عمران جزءاً من تنظيم سابق شهد أسماء ضباط آخرين ممن لا يُعتبرون من الأقليات المذهبية، وحركة التغيير التي أجراها عبد الناصر أخرجت هؤلاء من الخدمة، فوجد محمد عمران نفسه يعيد إنشاء تنظيم جديد، وقد كان الوحيد من اللجنة السابقة الذي نجا من النقل أو التسريح. وغالباً يرجع ذلك إلى صغر رتبته العسكرية آنذاك. لم يوفر وقتاً كثيراً، فعرف كيف ينتقي من كل صنوف القوات المسلحة ممثلين في لجنته العسكرية الجديدة، ومن الصعب أن نصدّق أن انتقاء الأسماء جرى اعتباطياً، وأن خلفيات كل منهم الدينية كانت مجرّد مصادفة. وبحلول عام 1960 كانت لدينا لجنة عسكرية من البعثيين يضمّون صنوف الأسلحة كلها، وجميعهم من أقليات سورية.
صلاح جديد شخصٌ يقظ وحريص، يؤمن بالتخطيط الهادئ والسرّي
من لا يصدّق فكرة المؤامرة المذهبية يقول إن اللجنة سرعان ما توسّعت بعد أن انتصر انقلاب 1963، وضمّت إليها مجموعة كبيرة من الضباط من الطوائف الأخرى، ووضع في رئاستها ضابط مثير للجدل، استدعي على عجل من سفارة سورية في الأرجنتين، يدعى أمين الحافظ، وقد كان من ضمن عداد الوفد الذي سافر إلى مصر في يناير/ كانون الثاني 1958، وطالب عبد الناصر بالوحدة الفورية. ويحتج من لا يؤمن بالمؤامرة أن من كشف أمر اللجنة العسكرية أصلاً هو محمّد عمران ذاته مؤسس اللجنة العسكرية، والمنتمي إلى الأقليات، فهو من قدّم تقريراً إلى قيادة الحزب القومية، كشف فيه أن القرارات الكبرى إنما تتخذ في اجتماعات اللجنة العسكرية. ورغم ذلك لم يكن انكشاف أمر اللجنة مناسبةً لحلها، بل كان فرصة لتعزيزها، بعد أن أصبح الصراع مفضوحاً وانتهى بانقلاب داخلي أطاح القيادة القومية للحزب وبمحمد عمران وأمين الحافظ، لتسيطر مجموعة متشدّدة على الحكم يتربع على رأسها صلاح جديد، وهو شخصٌ يقظ وحريص، يؤمن بالتخطيط الهادئ والسرّي. ولديه قدرة على القيادة من الخلف، وهي سياسة اعتمدها فعلاً، فعيّن نفسه في منصب ثانوي، ووضع في المقدّمة أسماء قوية ومهمة ولكن بصلاحيات منقوصة، ومع صلاح جديد كان عهد من الطائفية قد بدأ، معزِزاً بالفعل نظرية المؤامرة.