جلوساً على الأرض... أطفال جنوب إدلب يتمسّكون بسلاح التعليم
استمع إلى الملخص
- يعمل المعلمون بشكل تطوعي في ظل غياب الرواتب الثابتة، بينما يحاول الأهالي والمعلمون جمع التبرعات لإصلاح المدارس، لكن التركيز على الإغاثة بدلاً من التعليم يهدد استمرار الدراسة.
- أطلقت وزارة التربية والتعليم السورية مشروعاً لتأمين المقاعد المدرسية، وتبرع رجل الأعمال خلف الحبتور بمقاعد لدعم المدارس، مع أمل في تحسين ظروف التعليم في إدلب.
رغم كل الظروف القاسية التي خلفتها الحرب على الأطفال السوريين وتحصيلهم الدراسي، من استهداف لهم ولمدارسهم من قوات النظام وحلفائه، إلا أنهم أصرّوا على التمسّك بالتعليم. فكانت الخيام مدارس، والأحجار مقاعد، لا سيما في ريف إدلب ومناطق المخيمات.
بعد سقوط نظام الأسد، وعودة الأطفال إلى مدارسهم في بلداتهم وقراهم بريف إدلب الجنوبي، يصر الأطفال على أن التعليم الأمل الوحيد لمستقبلهم ومستقبل بلادهم التي دمرتها الحرب، فدخلوا المدارس شبه المدمرة، بلا مقاعد ولا نوافذ ولا أبواب، محتملين مع معلميهم كل الظروف القاسية في سبيل استمرار العملية التعليمية.
كل يوم آخذ بطّانية صغيرة من البيت، أنا وصديقتي نجلس عليها. لما تمطر، ينزل الماء من الشبابيك المكسورة، ونرفع دفاترنا حتى ما تبتل
قبل أن يغادر الطفل أيهم العمري منزله في قرية معرشمارين جنوبي إدلب كل صباح، تضع والدته في حقيبته قطعة صغيرة من الإسفنج قصّتها بعناية لتكفي مساحة جلوسه على أرض الصف الباردة. ... تقول له وهي تشدّ أزر سترته الرقيقة: "احملها معك، يا ابني، اجلس عليها في الصفّ حتى لا تبرد من الأرض".
صارت هذه القطعة جزءاً من أدواته المدرسية اليومية، مثل القلم والدفتر، لكنها في الحقيقة وسيلة للبقاء داخل صفّ مدرسي بلا مقاعد ولا تدفئة، في واحدةٍ من أكثر المناطق تضرّراً من الحرب في شمال غربي سورية. وفي المدرسة التي يرتادها أيهم، يجلس عشرات من التلاميذ على الأرض، متلاصقين قرب الجدران المتهالكة. المطر الذي تسلّل قبل أيام عبر النوافذ المكسورة ترك بقعاً من الطين على أرض الصف، فيما المعلمة تكتب الدرس على ورقةٍ كبيرةٍ علّقتها بمسمار، بعدما فقدت المدرسة سبّورتها الخشبية منذ سنوات. ... يبتسم أيهم بخجل حين يُسأل عن مدرسته، ويقول: "أحياناً ما في مكان أقعد عليه، بفرش الإسفنجة وبجلس فوقها. لما تمطر، ننقل الدرس بسرعة قبل ما تبتلّ الدفاتر".
مدارس بلا نوافذ ولا أبواب
يتكرّر مشهد أيهم في كثير من مدارس ريف إدلب الجنوبي التي لا تزال تحمل آثار الدمار. بعد أكثر من عقد من الحرب، تحاول القرى المنسية ترميم ما يمكن ترميمه من حق التعليم، لكن الإمكانات ضئيلة، والشتاء يقترب بسرعة.
يقول مدير مدرسة معرشمارين الأساسية، عبدالله الرحال، لـ "سورية الجديدة": "قريتنا كانت من أول القرى التي عاد إليها الأهالي بعد التحرير، لكن الطلاب يدرُسون اليوم بلا مقاعد ولا سبّورات، وحتى الأبواب والنوافذ غير موجودة. في بعض الصفوف، يجلس أكثر من 50 طالبا على الأرض، وبعضهم يتناوب على الكتابة فوق دكّة قديمة بقيت في زاوية الغرفة".
ويضيف الرحال أن غياب المرافق الأساسية مثل دورات المياه والتدفئة يثير قلق الأهالي على صحة أطفالهم، لا سيما مع انخفاض درجات الحرارة. يتابع: "الطلاب يجلسون ساعاتٍ طويلةً في البرد، بعضهم مُصابٌ بالتهابات صدرية أو نزلات برد مستمرّة. نحتاج إلى تدخّل عاجل لتأمين الحد الأدنى من التجهيزات، لأن الوضع لم يعد يُحتمل". ويشير إلى أن مدارس ريف إدلب كانت قد تعرّضت في عام 2019 لعمليات نهب وتخريب من قوات النظام، ما أدّى إلى فقدان أغلب تجهيزاتها.
"وما تبقّى من الأثاث المدرسي هو بقايا قطع محطّمة أو مواد أعاد الأهالي ترميمها بأنفسهم. نحاول أن نواصل التعليم حتى لا ينقطع الأطفال، لكننا ندرّس اليوم في مبانٍ تفتقر لأي مقومات مدرسية".
مريم... البطّانية التي صارت مقعداً
في قرية معرشورين القريبة، المشهد لا يختلف كثيراً. بين صفوف مدرسة قديمة يعمل فيها المعلّمون بنظام الفترتين لتغطية نقص الأبنية، تجلس الطفلة مريم العبد الله، ذات السنوات العشر، قرب الحائط في الصف الخامس، وتحاول أن تكتب واجبها المدرسي فوق دفتر تبلّلت أطرافه بالماء. تقول لـ "سورية الجديدة": "كل يوم آخذ بطّانية صغيرة من البيت، أنا وصديقتي نجلس عليها. لما تمطر، ينزل الماء من الشبابيك المكسورة، ونرفع دفاترنا حتى ما تبتل. أحياناً المعلمة تكتب الدرس على كرتونة لأنه ما في سبّورة". ثم تضيف بابتسامة صغيرة: "أيدينا بتجمد من البرد... بس ما بدنا نغيب عن المدرسة، بدنا نتعلّم مثل باقي الأولاد".
تكشف هذه التفاصيل جانباً من واقع التعليم في إدلب، حيث تحوّلت المدرسة من مكان للتعلّم إلى معركة يومية ضد الطقس والفقر والنسيان. يأتي بعض الأطفال بأحذية ممزقة أو بلا معاطف، ويقضون الحصص الدراسية وهم يحتضنون دفاترهم ليحافظوا على دفئهم.
قاسم... علبة بلاستيكية بدل المقعد
في ريف معرّة النعمان الشرقي، التي عادت إليها مئات العائلات خلال الأشهر الماضية، يجلس الطفل قاسم الخالد (11 عاماً) على علبة بلاستيكية فارغة من زيت المحرّكات، داخل صفّ بلا نوافذ في مدرسة الحي الشرقي. يقول لـ "سورية الجديدة": "هاي العلبة لقيتها برّا المدرسة، بغسلها كل يوم وبجيبها معي، بقعد عليها بالصف. الأرض كتير باردة وما في فرش". يضحك قليلاً، ثم يضيف: "أحياناً المعلم بيولّع شمعة أو يفتح كشاف الموبايل، لأن الكهرباء بتنقطع كل الوقت".
المعلم بسام أبو الطيب، أحد مدرّسي المدرسة، يوضح لـ"سورية الجديدة"، أن طلاب المدرسة يدرسون في ظروفٍ قاسيةٍ جداً: "البرد قاتل، وبعض الصفوف ما فيها سقف إسمنتي، بل صفائح معدنية مثقوبة. نحاول تدريسهم في ساعات الظهيرة عندما تكون الشمس أقوى، لكن الأيام الماطرة تجعل الدوام شبه مستحيل". ويتابع: "الأطفال متحمسون، عندهم رغبة حقيقية بالتعلّم، لكنهم يفقدون التركيز بعد دقائق بسبب البرد. لا يمكن لطفل أن يحفظ جدول الضرب ويداه ترتجفان من الصقيع".
معلمون بلا أجر ولا تدفئة
في هذه المدارس المهدّمة، لا يعاني الأطفال وحدهم. كثير من المعلمين يعملون منذ سنوات بشكل تطوعي دون رواتب ثابتة.
تقول المعلمة صفاء عثمان من ريف إدلب: "ما في تمويل، والمنظمات انسحبت من أغلب المدارس. ندرّس لأننا لا نريد أن يضيع جيل كامل من دون علم. بعض المعلمين يقطعون مسافات طويلة مشياً في المطر ليصلوا إلى الصفوف. كل ما نريده هو مقاعد وأدوات بسيطة". تضيف: "أحياناً نكتب الدرس على كرتونة من علب الإغاثة. المدرسة تحوّلت إلى ورشة صبر، لكن الأطفال يعطوننا طاقة نستمر بها".
حاول الأهالي بجهودهم الشخصية جمع تبرّعات لإصلاح بعض الصفوف وتأمين المقاعد، لكن التكلفة كبيرة، والمنظّمات العاملة في المنطقة تركز على دعم الإغاثة لا التعليم
3 مدارس فقط تعمل
يؤكد عضو لجنة التنمية في قرية معرشمدين، حسين الديري، أن الوضع التعليمي في المنطقة بلغ حدّ الانهيار. "لدينا في القرية ست مدارس مشغولة بالكامل، وثلاث مدارس أخرى مهدّمة وغير مرمّمة. نحو 1800 عائلة عادت إلى القرية بعد التحرير، وعدد الطلاب المسجلين يقارب 1800 أيضاً، منهم مائتا طالب من القرى المجاورة. ثلاث مدارس فقط تعمل حالياً بنظام الفترتين الصباحية والمسائية". ويضيف لـ "سورية الجديدة": "الصفوف مكتظة جداً، والنوافذ والأبواب مفقودة، ولا توجد أي وسائل تدفئة. إذا لم تُحلّ هذه الأزمة قبل الشتاء، فسيزداد الوضع سوءاً، خصوصاً أن مئات العائلات ما زالت تعيش في خيام قرب منازلها المهدّمة. الأطفال يدرسون في ظروف لا تصلح حتى للتخزين". ويشير إلى أن الأهالي حاولوا بجهودهم الشخصية جمع تبرّعات لإصلاح بعض الصفوف وتأمين المقاعد، لكن التكلفة كبيرة، والمنظّمات العاملة في المنطقة تركز على دعم الإغاثة لا التعليم. مؤكّداً: "في حال لم تتدخّل الجهات المعنية والمنظّمات الإنسانية قريباً، فإننا سنشهد انقطاع مئات الأطفال عن المدرسة هذا الشتاء، لأن البرد أقوى من قدرتهم على التحمل".
خوف الأهل وإصرار الأطفال
في هذه الأوضاع، يعيش الأهالي حالة من التناقض بين خوفهم على أطفالهم ورغبتهم في استمرار تعليمهم. بعضهم يفكر في إبقاء أولاده في المنزل حتى الربيع، لكن آخرين يصرّون على إرسالهم كل صباح رغم قسوة الظروف.
تقول أم أيهم، وهي ترتّب حقيبة ابنها قبل خروجه: "ما بدّي ابني يترك المدرسة، تعبنا كثير لنرجع نعيش حياة شبه طبيعية. بس لما يرجع للمنزل ويداه زرق من البرد، بخاف عليه. ما في تدفئة، ولا نوافذ، ولا حتى باب يسكر الصف". وتضيف بنبرة تعب: "نشتري له القفازات من السوق المستعمل، ونفرش له إسفنجة صغيرة، ونقول يا رب تمرق هالشتوية عخير".
ويقول مدرس اللغة العربية في ريف إدلب، خالد الصبحي، لـ"سورية الجديدة": "نحاول أن نُبقي التعليم مستمرّاً بأي شكل، لأننا نؤمن بأن المدرسة آخر ما يربط الأطفال بالأمل. لكننا في الحقيقة ندرّس في أماكن غير صالحة للحياة. نحن لا نطلب معجزات، نريد فقط سقفاً يحمي الأطفال من المطر، ومقعداً يجلسون عليه بكرامة".
مشروع الوزارة... طموح كبير في واقع هشّ
في مقابل هذا الواقع الصعب في الشمال، أطلقت وزارة التربية والتعليم السورية في 27 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) مشروعاً واسعاً لتأمين المقاعد المدرسية عبر الورش المهنية في المحافظات، بمشاركة طلاب التعليم المهني ومعلميه.
تنوّه مديرة التعليم المهني في الوزارة، سوسن حرستاني، لـ"سورية الجديدة": "الوزارة أعدّت خطة لإعادة تصنيع نحو ستين ألف مقعد مدرسي في عموم المحافظات، بمشاركة الطلاب وتحت إشراف المدرسين. المشروع ينفذ على مرحلتين: الأولى تشمل إنتاج المقاعد وتسليمها للمدارس حسب الحاجة، والثانية تهدف إلى تأهيل الطلاب بالمهارات العملية التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة وكفاءة". وتوضح حرستاني أن المشروع يشمل مراكز إنتاج في دمشق، حماة، حلب، اللاذقية، وطرطوس، وأن المقاعد تُنقل لاحقاً إلى المدارس الأكثر تضرّراً. مضيفة: "نسعى إلى تأمين أكبر عدد ممكن قبل نهاية العام، خصوصاً للمناطق التي تعاني اكتظاظاً شديداً. كما خصّصنا جزءاً من الإنتاج لصيانة النوافذ والأبواب عبر الورش نفسها". مشيرة إلى أن الخطة جزءٌ من رؤية أوسع لربط التعليم المهني بالاحتياجات المجتمعية، بحيث لا يكون التعليم نظرياً فقط بل منتجاً فعلياً.
جيل كامل في شمال غربي سورية، جيلٍ يتعلّم اليوم على الأرض، على أمل أن يجلس يوما على مقعد حقيقي، في وطن لم يعد يشبه الركام الذي يحيط به
بحسب بيانات رسمية اطلع عليها "سورية الجديدة"، يُقدّر عدد المقاعد المفقودة في المدارس السورية بأكثر من مائتي ألف مقعد، أغلبها في المناطق المتضرّرة من الحرب. لكن مسؤولين تربويين يؤكّدون أن الكلفة العالية للنقل وصعوبة إيصال المعدّات إلى بعض المناطق الخارجة عن السيطرة الحكومية تجعلان التنفيذ الكامل "أقرب إلى الأمنيات منه إلى الواقع".
تبرّع خلف الحبتور... بارقة أمل خارجية
في سياق متصل، أعلنت الوزارة في 25 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) عن تبرّع رجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور بتقديم مائة ألف مقعد خشبي دراسي للمدارس في سورية، في خطوة وُصفت بأنها الأكبر من نوعها منذ سنوات. وقالت الوزارة إن هذا الدعم يأتي "منفصلا عن مشروعها الوطني للإنتاج المحلي"، لكنه يسهم في معالجة النقص الكبير في المقاعد وتخفيف الضغط عن المدارس المكتظة. وبحسب مصادر تربوية، يُتوقع أن تبدأ عمليات الشحن والتوزيع خلال الأسابيع المقبلة، لتصل الدفعة الأولى إلى المحافظات في كانون الأول/ديسمبر المقبل.
ورغم أن إدلب ليست ضمن المناطق المشمولة رسميًا بالتمويل الحكومي، يأمل التربويون أن تشملها الدفعات الموزّعة عبر المنظمات الدولية، لما تعانيه من تدهور حاد في البنى التعليمية.
بين الأنقاض والأمل
مع حلول الشتاء في إدلب، يعود الخوف إلى الأمهات اللواتي يرسلن أبناءهن إلى مدارسٍ تشبه بقايا منازل مهدّمة. لكن وسط هذا البؤس، يظلّ الأطفال مثل أيهم ومريم وقاسم متمسكين بدفاترهم الصغيرة، يرسمون أحلاماً بسيطة عن مستقبل أفضل، ربما في مدرسة دافئة لها أبواب تُغلق ونوافذ تُفتح على شمسٍ خجولة.
يقول أيهم وهو يهمّ بمغادرة المدرسة: "أمي قالت لي إذا درست منيح، بصير إلنا صف جديد فيه مقاعد ودفاية... وأنا مصدّقها". ... وتختصر كلماته هذه حكاية جيل كامل في شمال غربي سورية، جيلٍ يتعلّم اليوم على الإسفنج، على أمل أن يجلس يوما على مقعد حقيقي، في وطن لم يعد يشبه الركام الذي يحيط به.