مرآتان لحقيقةٍ واحدة

16 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 10:39 (توقيت القدس)
(جميل شفيق)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في عام 2025، يقدم تشارلز غلاس في كتابه "سوريا: من حرب أهلية إلى حرب مقدّسة؟" تحليلاً للأحداث في سوريا، مشيراً إلى سوء حكم الأسد وتواطؤ الغرب في إطالة أمد الكارثة السورية.
- بانكاج ميشرا في كتابه "العالم بعد غزّة" يربط بين معاناة غزة وتاريخ الاستعمار، داعياً إلى التعاطف والمشترك الإنساني ورفض تقسيم العالم إلى "نحن" و"هم".
- عام 2025 يعكس واقعاً معقداً، حيث تتلاقى رؤى تتجاوز الحدود وتؤكد أن الجراح ليست محلية بل تعكس الكوارث العالمية.

يأبى عام 2025 أن يغادر قبل أن يعيد تعريف مفاهيمنا وقناعاتنا. وجدتُ نفسي فيه محاصرةً بين حقيقتين متوازيتين، تجسّدتا في قراءتين بنهجين متباينين لفهم عالمنا الممزق. الأول كتاب "سوريا: من حرب أهلية إلى حرب مقدّسة؟" لتشارلز غلاس، المراسل الأميركي البريطاني المخضرم في المنطقة. الثاني كتاب "العالم بعد غزّة" للمفكر الهندي بانكاج ميشرا، الذي يحلل فيه تاريخ الاستعمار وأثره على الحاضر من خلال قضية غزّة. كل كاتب حمل مرآته التي عكست الواقع، حلّلته، وشرحته، ثم أعادت بناءه بعد تفكيكه. لكن إحداهما عكست الواقع بلا تجميل وبعينٍ باردة، بينما عكسته الأخرى برفق وتأمل عبر عدسة الإنسانية.
لم يكتب غلاس، المولود في كاليفورنيا عام 1951، عن سورية بوصفه شاهدا فقط، بل جرّاحاً وضع مادّته على طاولة التشريح. أسلوب لم يتخلّ عنه منذ كتبه السابقة "قبائل تحمل الأعلام" و"سورية تحترق"، إذ ظلّ يتتبع خرائط الخراب. يعلن بلا مواربة، في كتابه الصادر أخيراً، أن سوء حكم الأسد وخداع الغرب تواطآ لصناعة التطرّف الديني، ما سبب الكارثة السورية وأطالها. لا يترك غلاس مكاناً للغفران أو للمجاملة، ولا يزيّن قسوته بالاستعارات. يكتب وكأن الحقيقة نفسها لا تُحتمل إلا إذا نُزعت عنها كل زخرفة، فكلماتُه أشبه بضربات المشرط، دقيقة ومؤلمة، تترك القارئ أمام ندوب التاريخ من دون فرصة للهروب.
أما ميشرا، المولود في الهند عام 1969، فلا أستطيع تذكر السنة التي صادفت فيها كتاباته. ربما حدث ذلك مع "دجاج بالزبدة في لوديانا" عن مدن الهند الصغرى وهي تُستدرَج إلى خيبات الكوزموبوليتية، حيث ظلّ في كتبه اللاحقة يسائل أثر الحداثة والاستعمار على شعوب آسيا وأفريقيا، حتى بدا المنطق يقودُه إلى ما تفعله إسرائيل بالكون وللكون. في كتابه "العالم بعد غزّة" يكتب بنيّات حارّة، أقل كولونيالية من غلاس، يرى في غزّة تجسيداً لتاريخ عالمي من القهر والهيمنة، يترك نافذة للتعاطف والمشترك الإنساني. إنه يرى في المعاناة خيطاً يربط كل الشعوب، ويرفض تقسيمها إلى "نحن" و"هم". كتاباته أشبه بنص مفتوح للتأمل، يدعونا إلى ربط جرح غزّة بجروحنا نحن.
بين القراءتين، ها أنا أعيش في مونتريال، أستحضر وجوه القتلى التي تلاحقني على شاشات المترو: كلمات غلاس تمتزج بصور لوجوه مغبّرة بالركام، تضربني كألم الأسنان، أخبار عن بلد يمتلك مجازر وسمعة أوصلته ليصير عبرة في فضاء غريب. كتاب غلاس يطعن ببروده، مثل تلك الشاشة التي تفرض عليّ صورة البلد بلا رحمة. أما ميشرا، فأقرأه وأشعر أن الجرح يتّسع ليشملني والآخرين، أن غزّة ليست فقط هناك، بل هي في داخلي، في مدينتي الأولى التي فقدتُها، وفي مدينتي الثانية التي تحاول عاجزة أن تحتويني.
الحتميتان تكشفان أن النظر إلى جراحنا ليس واحداً. إذ لم يُتح لسورية أن تمتلك عدوها كحال غزّة، فكأنما عبر سنواتٍ من ضرب لمناعتها، لم تستطع إلا أن تهاجم ذاتها وتهتك أوصالها وسمعتها. شرّح غلاس جسد سورية بلا زخرفة، لم تُتعبه اللغة كما فعلت بميشرا. انحازت اللغة لكتّابها، حيث لاءم التحليل البارد المسافة التي مشاها غلاس للفهم، بينما لغة الدفء بدت لميشرا من ضرورات البقاء. لغة متوازية لكاتبين رأت في عام 2025 ليس فقط سنة سقوط بشّار الأسد وصعود أحمد الشرع، ولا سنة دماء غزّة السارحة في أزقة الكون، بل سنة التقاء مرآتين: واحدة تبحث عن معنىً أبعد من الحدود، وأخرى تقول إن جراحنا ليست محلية ولا عابرة، بل هي مختبرات تطبيقية لمعنى الكارثة لقرن جديد، ومرآة صماء للعالم.

المساهمون