"نخبجية" الغباء

20 أكتوبر 2014
+ الخط -

أخشى أن يأتي يوم نقرأ فيه إعلاناً في الصحف، يعبر فيه المعلن عن حاجته الماسة والعاجلة إلى شخصٍ، يشغل منصباً مرموقاً في البلاد، يتصل بتوجيه الناس وإرشادهم وتثقيفهم، ويشترط المعلن في مواصفات هذا الشخص أن يكون "غبيّاً" شرطاً أساسياً، ولا مانع من أن تتوافر فيه مع هذه الصفة، أن يكون متبلداً وفاقداً الإحساس، وشديد الرعونة والجهالة وقلة الإيمان.

ناهيك عن أنه يشترط، أيضاً، في تفاصيل تلك السمات ألا يكون هذا الشخص ضبط من قبل  بالفهم، أو حتى الإقدام عليه، فضلاً عن أنه لم يغش الكتابة والقراءة، على الرغم من أنه يحبذ أحاديث المثقفين والثقافة، إلى درجة أنه حتماً، ولا بد أن يكون الأعلى صوتاً وقيمةً ومقاماً بينهم، ساعيّاً إلى ارتداء قناعاتهم، والحديث بلسانهم، الأمر الذي يؤهله إلى منطقة من لا منطق له، وشرعنة ما لا تقبله شريعة أرضية، أو سماوية، وتبرير كل ما يخجل المرء من تبريره ما لم يبد الإعجاب به.

وفي بند المهمات، يوكل لمن تتوافر فيه تلك الشروط مهمة تجهيل الناس، وإسقاط عقولهم في أرجلهم وعواطفهم، في بطونهم وأحلامهم في مقالب القمامة، وجعلهم مجرد كائناتٍ بلا روح، ولا عزيمة، وتحويلهم من موتى فوق الأرض إلى موتى تحت الأرض، من دون صخبٍ، أو ضجيج، فينتقلون من عذاب عباد الله إلى عذاب رب العباد الذي صرفوا جل حياتهم، من دون خوف منه، وراحوا ينشغلون في حياةٍ، لا تقدم لهم، أو لأحفادهم نجاحاً.

ويقول المعلن أنه سيتم توفير إمكانات جبارة لمن توكل إليه تلك المهمة، ليتسنى له إخراجها بالشكل الأمثل، وطبقاً للشروط والمواصفات، منها أنه سيوفر له العديد من كبريات وسائل الإعلام، المسموعة والمقروءة والمكتوبة، ذائعة الانتشار من تلك الوسائل التي وضع على رأسها مختارين بعناية، بعد أن اجتازوا الاختبارات بنجاح منقطع النظير، فأنتجوا، بما توافر فيهم من مواهب، جيلاً كبيراً من الجهلة والأغبياء والانتهازيين.

وأخشى أن يضيف المعلن استعداده لتوفير جيش من أنصاف المثقفين وأسداسهم وأرباعهم، ممن يمتلكون شطيرة من مخ من هؤلاء الموضوعين على قمة الهرم الثقافي والفني، حيث سيواصلون عملهم "التنظيري"، مستغلين قدرتهم على "الجدل" و"السفسطة"، وخلط الحابل بالنابل في أذهان العامة، علماً أن هؤلاء يقومون بهذا العمل، من أجل إشباع حاجتهم المتنامية في الشعور بارتفاع تلك الذات الممرغة بالوحل، ولو على حساب مستقبل الناس والحقيقة.
 
فضلاً عن أنه سوف يتم توفير ميزانية ضخمة، للإنفاق على كل ما من شأنه إنجاز تلك  المهمة، حيث سيتم الصرف ببذخ على المشخصاتية، ولاعبي كرة القدم والعابثين والعابثات، وإظهار أعمالهم وكأنها إنجازات قومية، كما سيتم الإعلاء من شأن كل فعل وقيمة وصنعة خالية من الإبداع والمهارة، ولا يمكن أن تفيد الناس في شيء.

ويضيف المعلن أنه سيغدق بشدة على سعيد الحظ، بحيث سيمنح راتباً يزيد نحو ألف ضعف  على أي راتب لأقرانه، ناهيك عما سيمر من تحت المنضدة، ومن خلالها ومن جانبيها، فضلاً عن أنه لن يجد من الوقت ما يدبره، لتلبية نداءات الفلاشات والكاميرات والمعجبات والمجاملين والمجاملات والطامحين والطامحات.

نعم يا سادة.. صارت البلادة والغباء هبة كبيرة من الله لعباده، في زماننا هذا، فقد اختلطت الأمور، وصار عصيباً على الواحد منا أن يفرق بين الصالح والطالح، أو يجد سبباً موضوعيّاً واحداً، لتفوق الغباء وانتصاره على العقل، أو يرسم طريقاً للباحثين العقلاء، يحدد أوله الذي يقود إلى آخره.

أقول ذلك، وأنا أؤكد أن المثقفين في بلادنا لم يوحدوا شعوبنا، بل زادوا الطين بلة، والبعد فرقة، وقطعوا الأوردة المتهتكة، ولم يضمدوها، وارتكبوا من الحماقات ما لم تفعله ذخائر العدو فينا.

أقول ذلك، وأنا أعلم أن المثقف محارب ومنبوذ في بلادنا، بينما يرتدي المخبرون كل أوشحة المعرفة والمال والنفوذ.

سيد أمين
سيد أمين
سيد أمين
كاتب ومحلل سياسي عربي مصري، يؤمن بأنّ العروبة والإسلام وجهان لعملة واحدة. هو أيضا باحث صدرت له دراسات "أمريكا الميكيافيلية" و"رؤى في الوطن والوطنية".. وشاعر صدرت له "أشعار مارقة" و"أشعار جديدة"، وروائي صدرت له "السحت" والمراهن" و"زمن السقوط".
سيد أمين