وكأننا مكتوب علينا الضنا
ومتقدر
الليل بيخلف ليل
والصبح متخدر
والويل لابد في بيوتك
بيتقوت بقوتك
وعلشان أرفض سكوتك
لازم اتكدر
بين أربعة جدران تنام القرفصاء لأنه ليس بإمكانك غير ذلك في تلك المساحة الضئيلة بين هذا الكم الهائل من البشر، ربما يكون مشهد الحشر أشبه بما أنت فيه الآن، ربما أقل كدراً، الحركة، وإن كانت غير محسوسة في تلك الوضعية، رفاهية لا تملكها، الوصول إلى الحمام الذي تفصلك عنه خطوة ورأسان وأربع أقدام مغامرة غير مأمونة العواقب، فتماسك حتى الصباح.
الصباح!.. كيف تلتمسه؟ ليس له أمارة إلا جلبة الحراس في الخارج، يراودك حلم الخروج، ورفاق ربما يكونون في الخارج يهتفون بسقوط النظام، "النظام هنا فوق كل شيء، فوق حقوق الذين على الأرض، وإرادة الذي في السماء، وإن ظننت أنك قد شربت ثمالة المر، وأن ليس بالإمكان أسوأ من الذي الآن فترقب، فإن لدينا مزيداً"، هكذا قال مأمور السجن.
السجن!.. كل الناس في الخارج يقولون السجن، السجن، السجن، لكن كم منهم يعرفه؟ "الآن هم كثر، فإن منهم إلا وارده، نام نام ولا تفكر"، يبدو أن حفيفي كان مسموعاً، ويبدو هذا المتطفل محقاً، فكم تبدل على تلك الزنزانة آلاف ينامون القرفصاء؟ ويظنون أنهم وحدهم من يعرفون ماهية السجن ونظامه، للسجن نظام صارم، أساسه كسرة الأنفس وجدرانه القهر وسقفه الأبراص، دفء السجن زحامه، وبراحه الليل، وهواؤه ما تجود به بطون المساجين، والأمل؟.. أتقول الأمل؟ الأمل دهسته أقدام العساكر حين خطت حرمات بيتك ليلاً.
اسألي نفسك يا آمنة
ياللي بتخافي من خيالك
كيف تبقي انتي أم الدنيا
وانتي مش طايقة عيالك
كيف نخدم في البيوت
والهلفوت يسكر بمالك
وكل يوم أحلام تموت
علشان جنابه يعيش مالك
مالك؟
إيه جرالك؟
مش عاجبني يا آمنة حالك
خارج أسوار السجن يقف طابور طويل، تضع أمك جريدة فوق رأس والدك الذي من المؤكد أنه مريض بالضغط والسكر، بينما هو يسند ظهرها بيديه لأنها كما تعلم تشتكي دوماً من آلام الظهر، أما حقائب الزيارة فإن لها جمل المحاميل، فتاة في العقد الثاني أو الثالث من العمر، ربما تحمل ابنك على يدها الثانية، ربما تحمله في رحمها.
على أي حال أمناء الشرطة على البوابة لا يساوي كل ذلك عندهم أقل من خمسين جنيهاً، ولا يساوي عند أهلك إلا نصف ساعة يضيع معظمها في سؤالك الممل عن أي باعث للأمل، ثم في نهاية الزيارة يجمعون أشواقهم من حولك ويمضون، وتلملم أنت فتات أملك المنثور على بلاط السجن، لتشكل منه حلماً جديداً يبدو أمام الناظرين سراباً.
عد إلى زنزانتك، لا جديد، بل ربما كانت لديهم أخبار سيئة أخفوها عنك، أخوك لم يأت لزيارتك منذ فترة! قد يكون لقي حتفه برصاص العسكر، قد يكون نزيلاً في سجن آخر، كم من خمسين جنيهاً دفعها والدك منذ أن كان في الطابور حتى وصل إليك؟
كم دفعت أنت منذ أن جئت إلى هنا؟ لا تحسب، فإننا توقفنا عن حساب أعداد النعوش التي حملتها الأكتاف منذ ثورة يناير إلى يومنا هذا، فأي سفه هذا الذي يحملك على حساب النقود التي دخلت جيوب الحراس والأشقياء أصحاب النفوذ داخل السجن؟
السجن مصلحة حكومية مثل كل المصالح، الفرق فيه أنك لا تبرحه بإرادتك، لكل شيء داخله تسعيرة، حفظ كرامتك داخل الزنزانة بتسعيرة، مد الأقدام بعض الوقت بتسعيرة، الارتكاز على الحائط بتسعيرة، حتى الشخير أثناء النوم بتسعيرة، قبل أي شيء ينبغي عليك أن تدفع، يا لسخرية الأقدار! هل من المعقول أن يكون لجهنم "حكمدار" يجمع من المغضوب عليهم الجبايات لتحسين أوضاعهم داخل النار؟!
لكني غصب عني
أشركت في دينك
مش ضعف مني
لكني مليت الكلام
سنين كتير مستني
تتعدل الأيام
ولا شئ بيتعدل
كل الوشوش بتبوش
وتبهت
وتتبدل
وتتوه بين الزحام
حتى وشوش النظام
بيتلعب فيها من ورا
ومن قدام
وتتقدم خطاويها
على صفحة الأهرام
وإن سألوك عن الوطن؟ فقل لهم حضن المحبوب، وإن سألوك عن الانتماء؟ فقل لهم يد أمي، وإن سألوك عن الخيانة؟ فقل لهم الموت على لا شيء، وإن سألوك عن التضحية؟ فقل لهم الموت على عشق من كان في الضيق براحي، أما الهوية فلا تعدو كونها صحيفة حالة جنائية كتب فيها كافر بدولتكم، دولتكم! أي دولة تلك التي تسلبك حريتك نظير امتناعك عن التصفيق لمهرج ثقيل الظل يؤدي عروضه في هيئة بيضة تفقس رصاصاً يطيش في أجساد الناس كلما راوده هوسه بالدماء؟ لا، لن أصفق، ولتسقط دولتكم، ولتسقط بيضتكم.
أما عن تراب الأرض، فإنه يعرفني، على الأقل يعرف أنني لم أسرقه يوماً، لم أبعه أبداً لغاصب محتل، لم أقايض عليه في معاهدة أقسمت الخيانة أنها لم تعرف نفسها إلا من خلالها، لن يصدق أكاذيبكم حولي، ربما يشتاق إلى قدمي في تلك اللحظة، ربما يبكيني، ربما يهيم على وجهه يسأل عني هواء الميادين وقبور الشهداء وأبواب السجون وأرصفة الموانئ، بل ربما يقف الآن في طابور الزيارة.
وماذا عن الناس؟ سؤالك فيه شيء من الخبث، لست بطلاً، لست هنا من أجلهم، أنا هنا من أجلي، من أجل ألا أصفق لبيضة دموية، ربما أحمل لهم شيئاً من الانتماء، ربما أتمنى لهم الأفضل، ربما لا أقبل عليهم الظلم، لكنهم طالما يضمرون أمنياتهم خوفاً، ويرضون السجن لغيرهم خوفاً، ويقبلون الظلم على أنفسهم خوفاً، فأنا لست هنا من أجلهم، ولكن على أي حال لا أكرههم، فلا يحب نفسه من يكره الناس، ولا يحيا أحدنا إلا بالناس.
أنا مش قليل الأصل
ولا كافر
أنا لما نويت أسافر
كنت بعافر علشان أعيش
ما انا كنت بنحت في الحجر
لما شبابي راح هدر
وفي الآخر أخدت.. مفيش
وانتي برضه ما أخدتيش
يبقى مش من حقي أعاتبك
وانتي برضه.. ماتعاتبيش
لم أتخلَّ عن جنسيتك يا أرضي، وإنما ساوموني عليها، قايضوها بحريتي، ماذا بوسعي أن أقدم لك وأنا بين جدران الزنزانة؟ منذ متى كان الوطن زنزانة؟ منذ متى كانت الأرض أجساد المساجين؟ أرض الزنازين لا تطرح نبتاً، لا تثمر خيراً، في الزنزانة كلانا خاسر، كلانا عبء على الآخر، ربما بخروجي أفسح مكاناً لمجرم حقيقي، وأفسح لروحي فرصة للحياة، أيها المغتر بسطوة البيضة، لم تكن تلك كلماتي، وإنما هي كلمات لمسجون لم أسمعها منه، كتبتها كأنني هو، وعليك أن تقرأها كأنك أنت هو، ثم بعدها تعال حدثني عن تراب الوطن، وعن الخيانة في مقايضة الموت داخل زنزانة بالحياة خارجه.
(مصر)
ومتقدر
الليل بيخلف ليل
والصبح متخدر
والويل لابد في بيوتك
بيتقوت بقوتك
وعلشان أرفض سكوتك
لازم اتكدر
بين أربعة جدران تنام القرفصاء لأنه ليس بإمكانك غير ذلك في تلك المساحة الضئيلة بين هذا الكم الهائل من البشر، ربما يكون مشهد الحشر أشبه بما أنت فيه الآن، ربما أقل كدراً، الحركة، وإن كانت غير محسوسة في تلك الوضعية، رفاهية لا تملكها، الوصول إلى الحمام الذي تفصلك عنه خطوة ورأسان وأربع أقدام مغامرة غير مأمونة العواقب، فتماسك حتى الصباح.
الصباح!.. كيف تلتمسه؟ ليس له أمارة إلا جلبة الحراس في الخارج، يراودك حلم الخروج، ورفاق ربما يكونون في الخارج يهتفون بسقوط النظام، "النظام هنا فوق كل شيء، فوق حقوق الذين على الأرض، وإرادة الذي في السماء، وإن ظننت أنك قد شربت ثمالة المر، وأن ليس بالإمكان أسوأ من الذي الآن فترقب، فإن لدينا مزيداً"، هكذا قال مأمور السجن.
السجن!.. كل الناس في الخارج يقولون السجن، السجن، السجن، لكن كم منهم يعرفه؟ "الآن هم كثر، فإن منهم إلا وارده، نام نام ولا تفكر"، يبدو أن حفيفي كان مسموعاً، ويبدو هذا المتطفل محقاً، فكم تبدل على تلك الزنزانة آلاف ينامون القرفصاء؟ ويظنون أنهم وحدهم من يعرفون ماهية السجن ونظامه، للسجن نظام صارم، أساسه كسرة الأنفس وجدرانه القهر وسقفه الأبراص، دفء السجن زحامه، وبراحه الليل، وهواؤه ما تجود به بطون المساجين، والأمل؟.. أتقول الأمل؟ الأمل دهسته أقدام العساكر حين خطت حرمات بيتك ليلاً.
اسألي نفسك يا آمنة
ياللي بتخافي من خيالك
كيف تبقي انتي أم الدنيا
وانتي مش طايقة عيالك
كيف نخدم في البيوت
والهلفوت يسكر بمالك
وكل يوم أحلام تموت
علشان جنابه يعيش مالك
مالك؟
إيه جرالك؟
مش عاجبني يا آمنة حالك
خارج أسوار السجن يقف طابور طويل، تضع أمك جريدة فوق رأس والدك الذي من المؤكد أنه مريض بالضغط والسكر، بينما هو يسند ظهرها بيديه لأنها كما تعلم تشتكي دوماً من آلام الظهر، أما حقائب الزيارة فإن لها جمل المحاميل، فتاة في العقد الثاني أو الثالث من العمر، ربما تحمل ابنك على يدها الثانية، ربما تحمله في رحمها.
على أي حال أمناء الشرطة على البوابة لا يساوي كل ذلك عندهم أقل من خمسين جنيهاً، ولا يساوي عند أهلك إلا نصف ساعة يضيع معظمها في سؤالك الممل عن أي باعث للأمل، ثم في نهاية الزيارة يجمعون أشواقهم من حولك ويمضون، وتلملم أنت فتات أملك المنثور على بلاط السجن، لتشكل منه حلماً جديداً يبدو أمام الناظرين سراباً.
عد إلى زنزانتك، لا جديد، بل ربما كانت لديهم أخبار سيئة أخفوها عنك، أخوك لم يأت لزيارتك منذ فترة! قد يكون لقي حتفه برصاص العسكر، قد يكون نزيلاً في سجن آخر، كم من خمسين جنيهاً دفعها والدك منذ أن كان في الطابور حتى وصل إليك؟
كم دفعت أنت منذ أن جئت إلى هنا؟ لا تحسب، فإننا توقفنا عن حساب أعداد النعوش التي حملتها الأكتاف منذ ثورة يناير إلى يومنا هذا، فأي سفه هذا الذي يحملك على حساب النقود التي دخلت جيوب الحراس والأشقياء أصحاب النفوذ داخل السجن؟
السجن مصلحة حكومية مثل كل المصالح، الفرق فيه أنك لا تبرحه بإرادتك، لكل شيء داخله تسعيرة، حفظ كرامتك داخل الزنزانة بتسعيرة، مد الأقدام بعض الوقت بتسعيرة، الارتكاز على الحائط بتسعيرة، حتى الشخير أثناء النوم بتسعيرة، قبل أي شيء ينبغي عليك أن تدفع، يا لسخرية الأقدار! هل من المعقول أن يكون لجهنم "حكمدار" يجمع من المغضوب عليهم الجبايات لتحسين أوضاعهم داخل النار؟!
لكني غصب عني
أشركت في دينك
مش ضعف مني
لكني مليت الكلام
سنين كتير مستني
تتعدل الأيام
ولا شئ بيتعدل
كل الوشوش بتبوش
وتبهت
وتتبدل
وتتوه بين الزحام
حتى وشوش النظام
بيتلعب فيها من ورا
ومن قدام
وتتقدم خطاويها
على صفحة الأهرام
وإن سألوك عن الوطن؟ فقل لهم حضن المحبوب، وإن سألوك عن الانتماء؟ فقل لهم يد أمي، وإن سألوك عن الخيانة؟ فقل لهم الموت على لا شيء، وإن سألوك عن التضحية؟ فقل لهم الموت على عشق من كان في الضيق براحي، أما الهوية فلا تعدو كونها صحيفة حالة جنائية كتب فيها كافر بدولتكم، دولتكم! أي دولة تلك التي تسلبك حريتك نظير امتناعك عن التصفيق لمهرج ثقيل الظل يؤدي عروضه في هيئة بيضة تفقس رصاصاً يطيش في أجساد الناس كلما راوده هوسه بالدماء؟ لا، لن أصفق، ولتسقط دولتكم، ولتسقط بيضتكم.
أما عن تراب الأرض، فإنه يعرفني، على الأقل يعرف أنني لم أسرقه يوماً، لم أبعه أبداً لغاصب محتل، لم أقايض عليه في معاهدة أقسمت الخيانة أنها لم تعرف نفسها إلا من خلالها، لن يصدق أكاذيبكم حولي، ربما يشتاق إلى قدمي في تلك اللحظة، ربما يبكيني، ربما يهيم على وجهه يسأل عني هواء الميادين وقبور الشهداء وأبواب السجون وأرصفة الموانئ، بل ربما يقف الآن في طابور الزيارة.
وماذا عن الناس؟ سؤالك فيه شيء من الخبث، لست بطلاً، لست هنا من أجلهم، أنا هنا من أجلي، من أجل ألا أصفق لبيضة دموية، ربما أحمل لهم شيئاً من الانتماء، ربما أتمنى لهم الأفضل، ربما لا أقبل عليهم الظلم، لكنهم طالما يضمرون أمنياتهم خوفاً، ويرضون السجن لغيرهم خوفاً، ويقبلون الظلم على أنفسهم خوفاً، فأنا لست هنا من أجلهم، ولكن على أي حال لا أكرههم، فلا يحب نفسه من يكره الناس، ولا يحيا أحدنا إلا بالناس.
أنا مش قليل الأصل
ولا كافر
أنا لما نويت أسافر
كنت بعافر علشان أعيش
ما انا كنت بنحت في الحجر
لما شبابي راح هدر
وفي الآخر أخدت.. مفيش
وانتي برضه ما أخدتيش
يبقى مش من حقي أعاتبك
وانتي برضه.. ماتعاتبيش
لم أتخلَّ عن جنسيتك يا أرضي، وإنما ساوموني عليها، قايضوها بحريتي، ماذا بوسعي أن أقدم لك وأنا بين جدران الزنزانة؟ منذ متى كان الوطن زنزانة؟ منذ متى كانت الأرض أجساد المساجين؟ أرض الزنازين لا تطرح نبتاً، لا تثمر خيراً، في الزنزانة كلانا خاسر، كلانا عبء على الآخر، ربما بخروجي أفسح مكاناً لمجرم حقيقي، وأفسح لروحي فرصة للحياة، أيها المغتر بسطوة البيضة، لم تكن تلك كلماتي، وإنما هي كلمات لمسجون لم أسمعها منه، كتبتها كأنني هو، وعليك أن تقرأها كأنك أنت هو، ثم بعدها تعال حدثني عن تراب الوطن، وعن الخيانة في مقايضة الموت داخل زنزانة بالحياة خارجه.
(مصر)