المُسَافَلة وشرعية الأسفل

المُسَافَلة وشرعية الأسفل

02 سبتمبر 2017
+ الخط -
لم تعرف النسبية انتهاكاً للمعنى كالذي عرفَته في بلادنا، ولا شهدت ابتزازاً للمفهوم كالذي شهدته بيننا. النسبية التي عاشت مجدها فيزيائياً، بوصفها نظرية ثورية في القرن الماضي، تُستحضر، في أيامنا هذه، أداةً لشرعنة كلِّ بائسٍ عبر مقارنته بشيءٍ أشدّ بؤساً، في عمليةٍ يُشرف على إدارتها لفيفٌ من صحافيي السلطة ومُستَكتَبيها. لا يجد هؤلاء في مواجهة الرداءةِ التي تحيطهم إلا الإشارة إلى ما هو أردأ، ثم حَمْد الله على كريم نعمائه، ولا يرون أن ممالك الفساد والتغوّل الأمني التي يعيشون فيها مشروخةُ الشرعية، ما دام مِن مكانٍ بهذا العالم أشد فساداً وتغولاً. وتحت رحى التكرار، وبضغط الفيض الإعلامي، تُبرمَج مخيلة الجماهير على هذا النمط من النسبية الشوهاء والمقارنة الرقيعة. لا قاعَ لهذه المفاضلات، ولا قعر تنتهي عنده، فهنالك ما هو أسوأ طوال الوقت. تبدو بئر الرداءة مفتوحةً على الما لانهاية، ليس لأنها كذلك بالفعل، وإنما لأنها دائرية، تلتفُّ بها الأشياء لغير انتهاء، ويتضافر فيها الرديء بالأردأ، ليعيد كل واحدٍ خلقَ الآخر.
لا بأس من انعدام الحرية، فهذا أفضل من أن نصبح مثل سورية. وليس من مشكلةٍ حقيقيةٍ في نهبِ قادةِ الدولة للدولة، فهذا أرحم من أن ننتهي مثل ليبيا. ولا ضيرَ في عربدة الأمن وأجهزته، مادمنا لا نموت بالكوليرا ولا نعيش في اليمن. أين تنتهي متواليةٌ كهذه؟ الواقع أنها لا تنتهي أبداً، لنكتشف، في النهاية، أنه لا بأس من أي خراب، ولا غضاضة من أي بؤس، لأن هناك خراباً أعظم، وبؤساً أشد، في مكان آخر، طوال الوقت. المدهش في هذا النمط من الخطاب الرسمي استخدامه مقولاتٍ في الفضيلة الشخصية واستنساخها للفضاء السياسي العام. نتعلَّم فضيلة القناعة وغِنى النفس في إطار مجتمعنا، عبر التأمل بمن هم أقلّ حظاً منّا. لكن السطو على فلسفة الزهد الأخلاقية هذه من عالم الفرد واستجرارها لتشريع تخلف الدولة، وتعفّن الفضاء العام، وإفقار المجتمع هو استجرارٌ ماجنٌ بحق، يزيدُ من مجونه أنه يتم تحت إهاب العفاف.
ولا يقف الأمر هنا. البحث عن الشرعية واستمدادها ممن هو بالأسفل علامةٌ فارقةٌ لكل من هم في الأسفلِ في الأصل. هناك معركة طاحنة في هذا الأسفل الذي نعيشُه، على من هو أقلّ 
إسفالاً من غيره. لا أعتقد أن أحداً في اليابان يمتدح الدولة مقارنةً بليبيا، ولا بأي دولة أخرى. على العكس بطبيعة الحال، فكلما صَعدَت الدولة صوب الأعلى، انصرف أبناؤها عن امتداح المُنجَز، وصار الهَمّ العام موجَّهاً للانتقاد مقارنةً بمن هم أكثر تطوراً. التقدم يستلزم شبقاً بمن في الأعلى، وليس انتشاءً هوائياً بالنظر لمن في الأسفل. كل ما تفعله الثانية تخدير الدافعية وتأبيد القائم وإلصاق مرآةٍ محدّبةٍ بوجوهنا.
ليست هذه ممارسةً جديدةً طبعاً، لكنها وصلت الآن إلى نهاياتها القصوى، حيث تحوّلت سورية إلى مرجعيةِ المقارنة العليا، ونقطةِ ارتكازِ كل مفاضلةٍ لقيطة. لم تعد السلطات الحاكمة بحاجة لتجهد نفسها، لكي تنحت مقارناتٍ دقيقة أو تجترح مفاضلاتٍ مرهفة. أصبح مجرد غياب الاحتراب الأهلي واحتراق المدن منّةً تستوجب الصمت على كل شيءٍ آخر. وحتى يكتمل مسرح العبث هذا، لا يرعوي إعلام النظام السوري نفسَه عن هذه المقارنات، ويجد في سلّته السوريالية، وهي أرحبُ سلّةٍ عرفها العالم بغير شك، مقارناتٍ من هذا النمط يستلُّها دفاعاً عن نفسه. ويقوم بذلك عبر حيلةٍ لافتةٍ بحق، فهو يستبدل المقارنة الجغرافية بالمقارنة التاريخية، فيعقد مفاضلاتٍ بين ما انتهت إليه الدولة الآن وما كانت عليه قبل سبع سنوات، ليعيد توزيع الشرعيات والمسؤوليات على نحوٍ يَخرج فيه موفورَ البراءة، وناضحاً بالشرعية، فكل الحطام الذي انتهت له الدولة الآن يشهد له بحكمته السابقة وحسن إدارته، ويُدين، في الوقت نفسه، كل من تمرّد عليه وسعى إلى شيءٍ خيرٍ منه. لا أجد لفظاً يمسك بهذا التوالد المتبادل بين من هم في الأسفل، وينشغلون بمقارنة أنفسهم ببعض مصدر تفاخرٍ ورضىً عن الذات، إلا بالمُسافَلة. ولعله صار مصطلحاً لازماً لوصف ما يجري من حولنا.
علاوةً على هذا كله، نجد فصيلةً إضافية لهذه المقارنات. فصيلة أكثر غرابةً، ولربما، أكثر وقاحةً أيضاً. فهي تستهدف أكثر دول العالم تقدماً. هناك تحفز دائم في إعلام عدد من الدول العربية لتلقّف كل تعثر غربي، مهما كان عَرَضياً، وتحويله ركيزةً، مقارنةً محليةً بلهاء. فجأة تصبح حادثة إطلاق نار داخل جامعة أميركية خلاصة كل التعليم الأميركي، ويصبح الحادث سجّادةً إعلاميةً عملاقة، تُكنس تحتها عقودٌ من فشل البحث العلمي لدينا وانفصام الجامعات عن الصناعة، وتغوّل الأمن بالتعليم، وتخلّف المحتوى العلمي. لم نعد نراقب العالم قدر ترصّدنا له، ولم نعد نحاول التعلّم منه قدر التماسِنا بعثراته عذراً مضحكاً لأنفسنا لنربّت بيدنا على أكتافنا، ونخبر أنفسَنا بالنهاية أننا بخير.
النظر إلى الأسفل ليس سعياً إلى شرعنة الرداءة وحسب. إنه مشاغَلةٌ عن الأعلى، وصدٌّ للناس عن الأمل وحجبٌ لفكرة الأفضل. وهو يخاطب الخوف الذي في الإنسان، ويعادي فكرة المستقبل، ويروّج نمطا أبديّا من الحاضر، لا يزول ولا ينتهي، ويعلم الناس التحديق لما تحتهم، ليُنسيهم أن هناك فوقاً فوقَ رؤوسهم، أفضلَ من أي تحت، وخيراً من كل أسفل.
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
عوني بلال
عوني بلال