22 فبراير 2016
حق الدفن
في 23 سبتمبر/ أيلول 2013، اختار مصدر رفيع مانشيت جريدة الأهرام الرسمية، ليزفّ من خلاله إلى المصريين، بشرى "إعلان مصر خالية من الإرهاب خلال أيام". بعدها بشهر، أعلن اللواء أحمد وصفي، قائد الجيش الثاني، في تصريح قاطع: "سنسلم سيناء متوضئة وطاهرة من الإرهاب في غضون أسبوع"، وبالطبع، لم يسأله أحد عن التصريح الذي "نتعه" المصدر الرفيع قبل شهر، كما لم يتذكر أحد تصريح اللواء وصفي في فبراير/ شباط 2015، حين وقف المشير عبد الفتاح السيسي، ليقول للفريق أسامة عسكر أمام ملايين المصريين: "أنا أشهد الناس عليك، يا أسامة، أن أحداث سيناء الإرهابية لن تتكرر مرة أخرى، وأنت مسؤول أمامي وأمام المصريين، عن أن هذا الحادث لن يتكرر مرة أخرى، وأنت أيضاً مسؤول بشكل كامل عن تنمية سيناء، وفي 10 مليار لهذه المهمة"، وهو ما لم يتذكّره أحد، خلال الأشهر التالية التي جرت فيها دماء الضباط والجنود والمواطنين على أرض سيناء، حيث لم ـ ولن ـ يسأل أحد بشكل رسمي، لماذا فشل "أسد سيناء" في تحقيق وعده؟ ولماذا تعثر بعده الفريق أسامة عسكر في أداء مهمته؟ ولماذا يتحدّث جميع القادة، بكل ثقة، عن واقع معقد، لن تزيده التصريحات الطنانة والقرارات العشوائية، إلا دموية وفشلاً.
كل فترة، تطالعنا وسائل التعتيم الإعلامي كافة، بأخبار تؤكّد مقتل عشرات الإرهابيين في سيناء، بعد ضربات توصف دائماً بأنها "حاسمة ومباغتة"، من دون أن يكون لأحد حق التساؤل عن طبيعتها وتفاصيلها، وعمن تقتله فعلاً، وعن كيفية التأكد من سلامة أداء قوات الجيش والشرطة في سيناء، وكونه لا يزيد الطين بلة أو يعمق جذور الإرهاب؟ لأن أسئلة كهذه لن تجلب لسائليها إلا اللعنات. وللأسف، حين يتنازل المواطن تحت تأثير التخويف من التخوين عن حقه في السؤال، وحين تصبح وسائل الإعلام أداة للتعتيم والتبرير، يكون طبيعياً أن يتحدث أي مسؤول، بحسم وثقة، عن واقع ربما كان لا يعرف حقيقته أصلاً، لأنه يدرك حصانته من العقاب، ويعرف أن آخر ما يمكن أن يمسه، لو تكرر فشله، هو إخراجه من منصبه الميداني، ليصبح محافظاً أو رئيس جهاز مدني، فينال من مباهج الحياة ما لم يحظ به من قبل.
تنظر إلى صور الجثث التي يتم نشرها من باب الفخر بالإنجاز، فلا تدري كيف يمكن أن يثق عاقل في كونها صور لإرهابيين قتلى بالفعل، خصوصاً أنها صادرة عن المؤسسة التي أعلنت، بكل ثقة، أنها اخترعت علاجاً سيقضي على الإيدز وفيروس سي، ولم تعتذر حين ثبت خطأ ذلك، وأعلن قائدها بالثقة نفسها أنه ليس طامعاً في مقعد الرئاسة، وحين اتضح كذب ذلك، وحكمت المؤسسة العسكرية البلاد مباشرة، بعد أن كانت تحكمها من وراء "فاترينة"، لم يقدّم نظامها الحاكم للمواطنين، عقب كل حادث إرهابي، سوى الاتهامات المرسلة، غير المصحوبة بأي أدلة موثّقة وقاطعة، لكي "تحلّل" بها أجهزتها الأمنية، المليارات التي تحصل عليها كل عام، من ميزانية دولة متهالكة، لا صحة فيها ولا تعليم ولا عدالة اجتماعية.
قبل أيام، أرسل إليّ أحد مواطني سيناء الذين أثق بهم رسالة مؤلمة تحكي قصة أسرة سيناوية، دمرت حياتها قذيفة أطلقها الجيش، على بيت في أحد أنحاء الشيخ زويد، فقتلت طفلة، وأصابت رجلاً وبعض أبنائه بشظايا خطيرة، من بينهم طفل ذراعه مهددة بالبتر. وحرص كاتب الرسالة مراراً، على تذكيري بألا أنشر اسم الطفلة ومكان إقامتها بالضبط، لأن والدها سيتعرض لمزيد من خراب الديار، بعد أن خطف الموت الميري ابنته التي اضطر مقهوراً للتوقيع على موتها بشكل طبيعي، لينال لها حق الدفن، والذي كان الحق الوحيد الذي منحته لها مصر. وبالطبع، لم يكن ممكناً أن أعظه بكلام ساكت عن حق الناس في المعرفة، بعد أن لمست قهره الذي تفيض به سطور رسالته، والتي ختمها قائلاً "باكتب لك ليه، مش عارف، يمكن عشان خايف أتكلم، ومتعذب بالكلمات، باكتب لك عشان تدعيلي إن قلبي لا يموت، وإن إخوات البنت كمان ما يكبروش، والشظايا لسه في قلوبهم".
طيب، من سيحاسب من على قتل تلك الطفلة؟ ومن يعلم إذا كانت قد وضعت، هي وغيرها، من ضحايا "النيران الوطنية"، ضمن قوائم الإرهابيين الذين يدعي نظام السيسي أنه تخلص منهم بنجاح ساحق، وهل ستوقظ هذه السطور في أحد شيئاً، غير الرغبة في إطلاق مزيد من اتهامات الخيانة والعمالة، ودعوات البطش والفرم، وهي اتهامات ودعوات لن يدفع ثمنها، إلا الذين سيجبرون مستقبلاً، على توقيع شهادات وفاة كاذبة، لينال أبناؤهم حق الدفن، وينجو القادة من حق العقاب وواجب الحساب.
تنظر إلى صور الجثث التي يتم نشرها من باب الفخر بالإنجاز، فلا تدري كيف يمكن أن يثق عاقل في كونها صور لإرهابيين قتلى بالفعل، خصوصاً أنها صادرة عن المؤسسة التي أعلنت، بكل ثقة، أنها اخترعت علاجاً سيقضي على الإيدز وفيروس سي، ولم تعتذر حين ثبت خطأ ذلك، وأعلن قائدها بالثقة نفسها أنه ليس طامعاً في مقعد الرئاسة، وحين اتضح كذب ذلك، وحكمت المؤسسة العسكرية البلاد مباشرة، بعد أن كانت تحكمها من وراء "فاترينة"، لم يقدّم نظامها الحاكم للمواطنين، عقب كل حادث إرهابي، سوى الاتهامات المرسلة، غير المصحوبة بأي أدلة موثّقة وقاطعة، لكي "تحلّل" بها أجهزتها الأمنية، المليارات التي تحصل عليها كل عام، من ميزانية دولة متهالكة، لا صحة فيها ولا تعليم ولا عدالة اجتماعية.
قبل أيام، أرسل إليّ أحد مواطني سيناء الذين أثق بهم رسالة مؤلمة تحكي قصة أسرة سيناوية، دمرت حياتها قذيفة أطلقها الجيش، على بيت في أحد أنحاء الشيخ زويد، فقتلت طفلة، وأصابت رجلاً وبعض أبنائه بشظايا خطيرة، من بينهم طفل ذراعه مهددة بالبتر. وحرص كاتب الرسالة مراراً، على تذكيري بألا أنشر اسم الطفلة ومكان إقامتها بالضبط، لأن والدها سيتعرض لمزيد من خراب الديار، بعد أن خطف الموت الميري ابنته التي اضطر مقهوراً للتوقيع على موتها بشكل طبيعي، لينال لها حق الدفن، والذي كان الحق الوحيد الذي منحته لها مصر. وبالطبع، لم يكن ممكناً أن أعظه بكلام ساكت عن حق الناس في المعرفة، بعد أن لمست قهره الذي تفيض به سطور رسالته، والتي ختمها قائلاً "باكتب لك ليه، مش عارف، يمكن عشان خايف أتكلم، ومتعذب بالكلمات، باكتب لك عشان تدعيلي إن قلبي لا يموت، وإن إخوات البنت كمان ما يكبروش، والشظايا لسه في قلوبهم".
طيب، من سيحاسب من على قتل تلك الطفلة؟ ومن يعلم إذا كانت قد وضعت، هي وغيرها، من ضحايا "النيران الوطنية"، ضمن قوائم الإرهابيين الذين يدعي نظام السيسي أنه تخلص منهم بنجاح ساحق، وهل ستوقظ هذه السطور في أحد شيئاً، غير الرغبة في إطلاق مزيد من اتهامات الخيانة والعمالة، ودعوات البطش والفرم، وهي اتهامات ودعوات لن يدفع ثمنها، إلا الذين سيجبرون مستقبلاً، على توقيع شهادات وفاة كاذبة، لينال أبناؤهم حق الدفن، وينجو القادة من حق العقاب وواجب الحساب.