رحلة البحث عن جرّة غاز

11 يناير 2017
+ الخط -

قبل أربعة أعوام في العام 2013، وتحديداً مثل هذه الأيام، وبسبب خاصيّة الذكريات "فيسبوكية" التي جاد علينا بها السيد مارك وفضائه الأزرق "الفأس بوك"، وأعادني ذلك المنشور إلى تفاصيل تلك الرحلة العسيرة والشاقّة التي خَبِرها السوريّون جيداً وهي الحصول على أسطوانة الغاز المُستخدمة لأغراض الطهو والمشهورة في سورية تحت أسماء متعددة ((جرة غاز ــــ قنينة غاز.. إلخ)).


بعد نفاد "المخزون الاستراتيجي" من جرار الغاز في بيتنا الريفي البعيد، بدأت المشاورات العائلية، في محاولات حثيثة لتأمينها وإنقاذ بيتنا من مصيبة قادمة!

بعد جهود عدة واتصالات متعددة وجلسات عصف ذهني شارك فيها كلُّ أفراد العائلة حتى جدتي "حبابتي"، استقرَّ الأمرُ  أن نستعين بخدمات أحد الأقارب لنا، والذي لم نكنْ نرغب بإزعاجه أو إحراجه، لكنّ الخطب جلل، 
ولا مفرَّ ولا مناصَ من سؤاله.


جاء الجواب مُبهجِاً ومُفرحِاً، ((تخيّل أخي السوري المعتر بإنك ستحصل على قنيتين غاز دفعة واحدة))، يا لهول المفاجأة!  

 
ابتدأت الرحلة في الصباح الباكر من قريتنا التي تبعد قرابة 100 كلم عن الرقة. مرّ عليَّ الفوكس أو السرفيس وكنت متأنقاً وكأني ذاهب لعرس أو لقاء أحد الشخصيات الهامة، في مؤسسة توزيع المحروقات أو "سادكوب".


وصلت للباب متأبطاً جرتي الغاز، واستقبلني الحارس هناك وساعدني في تحميلهما وطرح سؤالاً مباغتاً، هل أنت من بصمة شباب سوريّة؟؟ احمرَّ وجهي وامتقع لوني 
" كوكتيل ألوان"، وأجبتهُ بسرعة وحدّة: لا يا عم. هَمْهَمَ الرجلُ، وقال: ((ما في مشكلة تفضل معي))، نحمدُ الواحد القدير أننا لم نكن في فرع أمن وإلّا كانت هذه الكلمة بمثابة فيزا للعبور للعالم الغرائبي للمخابرات وفروع الأمن السوريّة التي بات القاصي والداني يعرفها.

قابلت قريبي الذي أحسّستُ وقتها بأنّه يملك العالم، شربت كأس شاي ساخنة، وأُعطيت الجائزة الكبرى المتمثلة بجرتي غاز، ساعتها شعرت بنشوة المنتصر وكأنيّ الإسكندر المقدوني وهو يخضع أمصار الأرض الواحدة تلو الآخرى.

حين كنْتُ أنتظر ذات "السرفيس" الذي سأعود به إلى القرية، كان الناس يرمقوني وبعضهم يحسدني، وبعضهم الآخر عرض عليّ أضعاف ما دفعت إذا أردت بيعها، لكن هيهات هيهات..


بدأت رحلة العودة بعد الإنجاز المجيد ((في سوريّة وقبل الثورة تعتبر كلّ أساسيات الحياة إنجازات مجيدة تلت الانقلاب "الحركة التصحيحية" التي قادها حافظ الأسد)). بعد أقل من عشر دقائق، استوقفنا حاجز الجيش النظامي عند الفرقة 17 في مدخل مدينة الرقة من الجهة الشمالية، كنت في المقعد الأول، تفرس بي ذاك الجندي ونظر إلى شعراتي البيضاء المتناثرة، ولم يطلب دفتر خدمة الجيش أو "خدمة العلم"، التي لم أكن قد أديتها وهذا هو الإنجاز التاريخي الأهم في حياتي حتى اللحظة.


تابعنا المسير وهذه المرّة استوقفنا الحاجز التابع للجيش الحر وهو لا يبعد عملياً سوى كيلومتر واحد عن حاجز الجيش النظامي، طلب الهويات وتبسّم في وجهي لا أعرف ما السبب، لكنّ نظرات زملائه كانت مصحوبة بالخوف والحذر فحاجزهم كان عبارة 
عن "حاجز "طيار كما هو متعارف عليه.


تابعنا المسير وأنا أفكّرُ ببقية الطريق، وقبل وصولنا لنصفه عند قرية تل السمن وهي على مفترق طرق أحدهما يكملُ إلى مدينة تل أبيض والآخر إلى مدينة عين عيسى.، تواترت أنباءٌ أنّ طريقنا الذي سنسلكهُ في اتجاه عين عيسى مقطوع بسبب الاشتباكات. اختلف الركاب في ما بينهم حول الوجهة التي يجب أن نختارها، أصرّ بعضهم على المواصلة بذات الطريق وبدأ بعضهم بقراءة الفاتحة. أما أنا فكنت خائفاً على كنزي الثمين "جرة الغاز"، التي أريد أن أوصلها لأهلي. 

وصلنا بلدة عين عيسى والخوف يهيمن على الأجواء. كانت مدينة أشباح وخاوية على عروشها، وآثار الرصاص تملأُ واجهات المحلات، وبعضها الآخر محترق نتيجة الاشتباكات التي انتهت حديثاً ومعالم المعركة الطازجة بادية للعيان بشكل واضح.


بعد أن تجاوزنا هذه البقعة الجغرافية، تنفَّسَ الرُكاّب الصعداء وباتت الرحلة أقل خطراً. قبل وصولي القرية، استوقفنا حاجز تابع لوحدات الحماية الشعبية (YPG/ الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يرفع راياته الصفراء)، وأيضاً تأكد من هوياتنا مع أنّه يعرفنا جيداً كونه من أبناء المنطقة. لكن طقس السؤال عن الهوية هو تعبيرٌ سلطويّ تمارسه كلُّ الجماعات المسلحة في سورية.


انتهت الرحلة المعجزة التي كانت عبارة عن 100 كلم فقط. عبرنا خلالها بثلاث دول ومررنا من تحت ثلاثة أعلام مختلفة ورأينا مشاهد حرب حقيقة. لكنّ هذا كله انتهى
عندما رأيت أمي مبتسمةً مُبتهجةً وأخمّن أنها كانت فرحة "بجرار العاز" أكثر من رؤيتي، كافأت نفسي بصنع كأس متة وعدتُ لقراءة كتاب "اختلال العالم" لأمين معلوف، هل هذا العالم مختل يا تُرى؟


هوامش:

- يفسّر جهابذة محللي الممانعة والمقاومة ومن يدور في فلكهم، الثورة السوريّة التي صارت حرباً مُدمرِّة، على أنها مؤامرة قطرية ـ صهيوأميركية مَردُّها عدم موافقة النظام على مشروع مد أنابيب الغاز القطري عبر الأراضي السوريّة إلى تركيا.


- منذ أيام عدّة أقرّت الحكومة اللبنانية المشكلة حديثاً مراسيم النفط والغاز التي تسهل عملية استخراج الغاز الطبيعي من المياه الإقليمية اللبنانية والتي تأخرت ثلاث سنوات، نتيجة انشغال حزب الله في إفشال مؤامرة الغاز القطرية على سورية.


- كانت مشهديّة "جرار الغاز" المحمولة على أكتاف "الجيش السوري البطل" وهو يعفش بيوت السوريين الهاربين، أفضل تعبير عن عقيدة هذا الجيش الأسدي ولذا يجب أن تُستبدل النجوم على أكتاف ضباطه بعدد جرار الغاز التي يغنمونها.

66BCAAE7-D525-4184-99DB-D59CCFB5D900
66BCAAE7-D525-4184-99DB-D59CCFB5D900
مصطفى الجرادي

شاب سوري كتبت في العديد من الصحف والمواقع العربية وأيضاً نشرت مجموعة مقالات قصيرة مع جريدة " Brabant Dagblad" الهولندية، مقيم في هولندا.

مصطفى الجرادي