رياضي عربي في فلورنسا

07 يونيو 2015
حضور للقضايا العربية في مفاصل المجتمع الإيطالي(Getty)
+ الخط -
هي العشق الأول، البيت الأول، وهي اليوم الحسرة والألم القاسي الذي أكابده عندما أتابع نشرات الأخبار وأرى الدمار الذي حل بها، مع كل قذيفة أو غارة جوية يتهدم فيها بناء أو مدرسة أو مسجد وتسيل فيها دماء الناس الأبرياء، أشعر بانكسار ودمار داخلي. بهذه الكلمات يصف الدكتور محمد ربيع قضيب البان مدينة حلب الشهباء التي فيها خرج ومنها درج وهي مجمع أسرته ومقطع سرته، حلب تلك المدينة التي تُذبح كل يوم ألف مرة ومرة.

ولد الدكتور محمد ربيع في مدينة حلب السورية، ويحدثنا عن أحلام طفولته في سن الخامسة عندما دخل المدرسة الابتدائية التي تحمل اسماً يلامس وجدانه حتى هذا اليوم وهي مدرسة النضال العربي، حيث إن فلسطين هي الحاضرة إلى جانب سورية في وجدان كل مواطن سوري، وأن قاعدة النضال العربي تكون بالعلم والحرية، كما يذكر د. محمد ربيع، وكان يحلم بأن يصبح ملكاً منذ صغره كما في القصص والروايات التي كان يقرأها، لما في شخصية الملك من قوة وعدل ووقار، ولكن مع اكتمال وعيه ونضوجه بدأ هذا الحلم يتبدّل شيئاً فشيئاً ليتقاسم حلمه مع ما ترغب به عائلته وهو أن يصبح طيبياً، وهو في الحقيقة حلم كل أسرة سورية تزرعه في أذهان أولادها لما للمكانة والدور الاجتماعي الذي يمتاز به الطبيب في بلادنا.

وفي مدرسة خير الدين الأسدي الثانوية بدأ الشاب محمد ربيع رحلة جديدة في التعرف على مدينة حلب واكتشاف جمالها ورونقها، وكان متفوقاً، إلا أن تحصيله تراجع نتيجة ظروف أسرته الاقتصادية وتنقلها بين ثلاثة منازل في حلب. ويصف د.محمد ربيع تلك المرحلة بأنها مرحلة تفجرت فيها مواهبه الأدبية وانكب على قراءة الأدب والشعر وأعطى جل اهتمامه للأدب واللغة العربية، وكان بينه وبين المواد العلمية، كالفيزياء والكيمياء والرياضيات نوع من القطيعة، وعلى وجه الخصوص مادة الرياضيات التي كان بينه وبينها كما يصف جدار شاهق الارتفاع.
ولكن، وفجأة، قرّر أن يدخل في تحدي مع ذاته وتوجه نحو دراسة الرياضيات من خارج الكتب الدراسية وراح يقرأ في البدايات الأولى لنشأة هذا العلم وفلسفته، ووجد نفسه ينجذب أكثر فأكثر لهذا العلم الذي يرتبط ارتباطاً عضوياً بحياتنا اليومية. وبفضل مثابرته وكذلك تشجيع محيطه من أساتذة وعائلته، بدأ هذا الجدار، على حد وصفه، بينه وبين الرياضيات تفتح فيه نوافذ وبوابات يلج من خلالها إلى ذلك العلم، ليجد نفسه على مقاعد كلية الرياضيات في جامعة حلب، وبدأت تتشكل علاقة بينه وبين علم الرياضيات وراح يفكر في حلم جديد وهو كيف يحطم تلك الجدران بين طلاب المرحلة الثانوية والإعدادية ومادة الرياضيات لتكون سهلة محببة وقريبة للعقل والقلب.
وبعد أن تخرج من كلية الرياضيات عام 2002 وبسبب الظروف المادية التي مرت بها أسرته، اتجه نحو التدريس في مدينة حلب في مدرسة عامر سرميني، وفي أرياف حلب الشمالية والشرقية حيث درس في مدرسة قصر هدلة وكفر نواران، وكان يعمل 12 ساعة، منها 4 ساعات يقضيها في وسائل المواصلات. ويصف رحلته في الاتجاه من مركز المدينة باتجاه ريفها. وتعود به خيالاته إلى تلك المناطق التي هي اليوم ساحات حرب بين قوات الجيش الحر والجيش النظامي، ويقول إن عدداً من طلابه هم اليوم ممّن يحملون السلاح وكان يود لو أنهم يحملون أقلاماً وكراسات وكتباً جامعية بدلاً من أدوات القتل والدمار. وفي اتصالات يجريها مع طلابه الذي ما زالوا حتى اليوم في حلب يقولون له بأن الوضع داخل سورية أشبه بمعادلة رياضية معقدة المقدمات والنتائج وتحتاج لمعجزة لبرهنتها.
وفي عام 2006 جرى تعيين د. محمد ربيع معيداً في كلية التربية في جامعة حلب، وكأن الحلم بالعمل على تطويع مادة الرياضيات لتصبح ليّنة في أيدي الطلاب بدأ في طريقه للتحقق، وما هي إلا سنوات قليلة حتى حصل على منحة لدراسة الدكتوراه في طرائق تدريس الرياضيات في جامعة فلورنسا الإيطالية، وكان ذلك في مطلع عام 2011.

لم يكن يعرف ما سيجده هناك في مغتربه الجديد، غير أن آمالا كثيرة كانت لديه وتراود أحلامه في انطلاقة جديدة تنسيه مآسي وإخفاقات الوطن الذي عصف به الدكتاتور، غير أن الأمور لا تسير على أحسن ما يرام إلا بالتضحيات وتجاوز المطبات.
يقول: "ما أن وصلت الى مدينة فلورنسا الإيطالية حتى تعرضت لصدمة حضارية قوية، حيث إن المدينة حاضرة عصر النهضة، مدينة ليوناردو دافنشي وغاليللو غاليلي ومايكل أنجلو، وجامعتها التي كانت بمثاية خلية للنحل والعمل الأكاديمي المتسارع. وما هي سوى أشهر حتى اندلعت الثورة السورية وبدأت أتابع بعين الأحداث في بلاد الياسمين وبالعين الأخرى دراستي ومشروعي الذي أطمح إلى تحقيقه. ولم أكن أعرف آنذاك أن بلدي مقدم على أسطورة للموت والخراب وسيقدم شبابه قرابين على مذبح الحرية والكرامة، وعندها بدأت أشعر بالاغتراب الاجتماعي والسياسي في كل يوم أسمع فيه خبراً عن صديق اعتقل وآخر قُتل وعائلة هُجّرت وأخرى قضت بفعل براميل الحقد أو قذائف الموت، مبانٍ مدمرة وطفولة معذبة، كلها أخبار تصلني وأنا على مقاعد الدراسة. وصممت على متابعة دراستي منطلقاً من فرضية أن القلم خير سلاح وهو الذي سوف يقتل الجهل الذي هو سبب ما وصلنا إليه من حالة كارثية، والحمد لله حصلت على شهادة الدكتوراه بتاريخ 20/04/2015، وكان تقييم الإطروحة من قبل اللجنة المحكّمة بأن البحث أصلي وأنه إضافة جديدة إلى علم الرياضيات ويحمل رؤية جديدة لجعل نموذج تارسكي في الهندسة نموذج بنائي يخدم المنطق الرياضي لطالب المرحلة الثانوية ويحافظ على روح الهندسة الإقليدية". ويختم د. محمد ربيع: "أعتبر نفسي في بداية المشوار وأقدم شهادتي كهدية بسيطة للشعب السوري، وأعده أن أناضل لأقدم أقصى ما أستطيع لخدمة مجتمعي. وأعد بأن أعمل في سورية المستقبل كي أجعل من مادة الرياضيات سهلة ومحببة تجعل من الأجيال ملوك زمانها بقوتها العلمية في محاربة الجهل الذي هو أساس الظلم والفقر والفساد والاستبداد في بلادي".

المساهمون